بقلم/ آية إبراهيم
في رواية “كبرت ونسيت أن أنسى” قالت بثينة العيسى: آتني لغتي يا رب اللغة. آتنيها كي أفكر، كي أكون، كي أعرفني، كي أعرفك.
أنت ثري باللغة فقير دونها، ولا أقصد هنا لغة بعينها أو لسانًا بعينه، ولكن فقط روح البيان التي تسري في الوجدان وتنطلق فيك حديثًا أو كتابةً. اللغة التي معها تتشكل الهوية ويعرف بها الإنسان فيعرف حقًا من هو وماذا يريد. اللغة التي تحملها في حقيبة أيامك وتمشي بها وتلتصق بك التصاقًا وثيقًا حتى من قبل بدء الكلام. اللغة التي هي أنت وما تكون.
حروف الأبجدية الثمانية والعشرون ومقابلاتها في اللغات الأخرى كلها أدوات طوع لغتك الخاصة بك، مهما كانت جنسيتك ديانتك حياتك ومعيشتك، ذلك بأنها مكون فريد يخص كل بشر على حدة، ولو تشابهت الأحرف والكلمات والمعايش. فلكل إنسان لغة خاصة به، تمكنه من التكيف مع الحياة المحيطة به من أفراد وجمادات وموجودات بصفة عامة.
اللغة التي هي الفكر الذي يحرك لسانك في اتجاه قناعاتك ومنطقك الخاص بك. إذا أتتك اللغة فإنها تخرجك من الأنفاق المظلمة لتتواصل مع الحياة، والوجود مع نفسك ومع من حولك ومع الله. اللغة التي تتشكل في سؤال وجواب وذكر ودعاء ودموع وروايات وحديث منطوق واستنكار ودهشة. اللغة التي تحملها في داخلك في كل مكان ويومًا لم تتخل عنك ولم تعتذر منك، لكنها قد تراوغك فلا تعرف لذاتك سبيلاً ويسقط في يدك وتفقد الأشياء معانيها.
مؤلم جدًا أن تتعطل لغتك، فتشقى بوجودك في عالم لا تستطيع التواصل معه، لأن أحدًا لا يفهمك ولا تفهم أنت ما المشكلة وما الذي يحدث. لماذا يقتل الناس بعضهم البعض لأجل كلمة؟! ولماذا تشتعل الحرب بكلمة وتنطفئ أيضًا بكلمة؟! لماذا تصبح اللغة أحيانًا مصدرًا للفقد والموت والكراهية وفي إمكانها نشر الحب والسعادة والتفاؤل؟! ماذا يفعل الناس بلغاتهم حتى أصبح للعالم هذا القلب المكدود والعمر الضائع والفجائع التي لا تنتهي؟! فاللغة يومًا لم تفن ولم تستحدث من عدم، لأنها فينا منذ قد خلقنا الله، لكننا نضل عنها وننسى.
في أي حقبة زمنية فقد العالم لغته فبدا جميع البشر صمًا يتجادلون بلا نهاية ولا جدوى! الأمر يسير ونحن لا نزال نطلب الشتات والفراق والدمار، ولم نطلب من الله الكلمات واللغة التي نخرج بها من ضيق أنفسنا إلى سعة الموجود.
اللغة التي هي الحب والريحان والامتنان والسعي والجمال والإبداع. كيف لكاتب يكتب لا يطلب من الله اللغة والكلمات؟! كيف لقائد ألا يطلب من الله قوة الكلمة وصدقها لينجو ومن معه؟! كيف لا نطلب من الله اللغة وحياتنا كلها معلقة باللغة فكرًا وكلامًا؟! كيف لا نطلب من الله أن نعثر عليها وألا نضيع بضياعها. بها تسقط الحروب ويشرق الحب ولا يفسد الود ولا تنكسر الخواطر.
ولي وحدي -رغم كل اغترابات الأماكن- لغتي التي أحملها في حقيبة أيامي، فالحدود الجغرافية تسقط لدى الكلمات ولا يصبح لها الكيان المهيمن أبدًا. والحزن مهما تنامى ومهما تعاقب لا يهزم يومًا أبجدية تتشكل في دعاء ورجاء وذكر وخيال يأخذ من النثر خدينًا ومن الكتاب جليسًا. فتلك سعادة لا تطولها كآبة الحياة القاتمة. يا رب آتني لغتي فلا أشقى في هذا العالم، الذي يضيع لغته كل يوم.
عندما تأتيك اللغة ستعرف ذاتك، وحين تعرف ذاتك تعرف الله، وحين تعرف الله لن يبتلعك العالم الكبير، وستكون على قيده دومًا شيئًا مذكورًا.
اقرأ أيضًا: نظرة إلى عقل مهووسة باللغة