في عالم الوحدة

1245

بقلم: ريم وجيه

هذا النص كُتِب بناء على حملة “الكاتبات والوحدة” التي دشنتها الكاتبة نورا ناجي.

في عالم الوحدة اخترت أن أكون بطة. أثناء دراستي الجامعية كان مقررًا علينا زيارة لدار مسنات، القدر حولها لثلاث بالنسبة لي. يمكن توقع حالة الغرف الجيدة في الدار الخاصة ذات المصروفات، حيث غرفة لكل نزيل، رعاية فندقية، وتمريض متوفر بطبيعة الحال والضرورة. أما الدار المجانية كانت عبارة عن عنبر كبير يتسع لأكثر من اثني عشر سريرًا، ومجموعة من الخزانات، لكل نزيلة خزانة خاصة بها.

تتنوع الحالات الصحية والنفسية بين النزيلات بطبيعة الحال، رغم الاشتراطات الأولية لأي دار مسنين بحالة صحية وعقلية جيدة، ممنوع لمرضى ألزهايمر أو الخرف، طبقًا لذاكرتي غير القوية. بطبيعة الحال، وبطبيعتي، حداني الفضول للحديث مع النزيلات، رغم تنبيه مشرفتنا الجامعية بعدم سؤالهن عن أسباب إقامتهن. لكن انفتح الحديث وعرفت حالة منهن.

كانت هناك تلك السيدة العجوز، التي تعتبر الالتحاق بدار مسنات عارًا، وتتمنى فقط أن تعود لبلدتها. أنجبت ثلاثة عشر من الأبناء، وكان سبب التحاقها بالدار حمايتها من أصغرهم. كان مدمنًا وضربها وتتبعها حتى الدار ليضربها. تجلس على فراشها وحيدة، داخل عنبر يفوح برائحة البول والأدوية، تبكي إهانتها وقهر الأبناء.

أما على مسافة عدة أسِرَّة، اجتمعت مجموعة من النساء في حلقة من الضحك والمسامرة، لتضحك لي إحداهن وتناديني بـ”بطة”، إنتي بطة؟ تخبرني أني أشبهها كثيرًا، فتاة تعرفها، لتدخل في حكاية جديدة عن ذكرياتها وجيرتها القديمة، تحكي بوجه بشوش وضحكة ودودة. كانت تبدو متأقلمة بشكل لطيف مع المكان، وتمنح له حسًا طيبًا، خصوصًا مع وجود طريحات الفراش غير القادرات على الحركة.

يحفزني أبي على الزواج عن طريق إخباري أن أيامه أصبحت معدودة في الدنيا، ويريد أن يراني عروسًا ويحضر فرحي. ينبهني أن أطفال إخوتي سيكبرون، ستلهيهم حياتهم عني ولن يهتموا بوجودي. أبي لطيف بما يكفي ولا يخبرني صراحة أن جمال الشباب سيزوي بفعل الزمن، وأن الأمومة لها تاريخ صلاحية يقرب نهايته كل شهر. لن أكون زوجة مرغوبة لأحدهم. أبي لطيف. مجتمعي ليس بنفس اللطف، أدرك قواعده جيدًا، رغم عدم لعبي وفقًا لها في حياتي.

احترامًا لمشاعر أبي الطيبة لا أخبره كم أكره الأفراح الصاخبة بفجاجة، رغم حبي الطبيعي لفساتين الزفاف. وأني لا أشتاق للأمومة، رغم الحب المتبادل بيني وبين الأطفال، وأني كذلك لا أنتظر اهتمام أطفال إخوتي بي في شيخوختي، إن طال عمري للشيخوخة. على العكس، أظنني متحمسة لأن يفردوا أجنحتهم ويحلقون لآفاق جديدة بعيدة أطيب من واقعنا.

لكل اختيار في هذه الحياة عواقب ، ثمن يُدفَع غاليًا لا مفر. منذ الخامسة عشر أدرك هذا، وأحدد اختياراتي طبقًا لهذا الواقع. دومًا لي اختيار مدروس طبقًا لقدرتي على تحمل العواقب، والوصول لنتيجة ترضيني وتشبهني. ربما اختياري لم يكن الأصوب، لكنها تجربتي أنا، وأعرف أنه إن عاد بي الزمن وأرجو ألا يعود سأختار نفس الاختيارات.

أعرف أني لن أقبل بالزواج إلا برجل أرى احتمالات السعادة معه تفوق التعاسة. شراكته أسعد بها، وأحتمل في سبيلها مشقة بناء علاقة إنسانية بكل ما تحملها من غرابة. يستطيع أن يكون أبًا في حال رغبنا في إنجاب طفل، ويحتمل تفردنا إن لم نرغب. وآمن معه في حال التعاسة بمخرج طيب، طلاق ودود نصون فيه الجميل وننبذ القبيح. إما ذلك، وإما أستكمل مشوار حياتي وحدي، وهو مساري حتى يأتي ذلك الرجل المعجزة.

الوحدة هي الحقيقة التي نتعامل معها بشكل يومي، ونقوم بالشوشرة عليها. شئنا أم أبينا سنكون وحدنا في النهاية، والزينة الصناعية من البشر إلى زوال أكيد. كل ما أحاوله، وأرجوه في حياتي، هو أن أستطيع أن أكون سعيدة وقادرة. قادرة نفسيًا على السعادة، منحها واستقبالها. قادرة صحيًا على الوجود والعطاء والأخذ. قادرة ماديًا على إيفاء احتياجاتي وتحقيق رفاهيتي بنفسي. قادرة أن أكون ما أنا عليه حقًا، دون الحاجة لأن أزيف نفسي طمعًا في صحبة كاذبة.

الوحدة حتمًا ليست حكرًا على الكاتبات، لكن هن من امتلكن القدرة على التعبير عنها، ليؤنسن غيرهن من الوحيدات حول العالم ويؤكدن لهن: لستن وحدكن إلى هذه الدرجة.

المقالة السابقةأنا حصلي ختان؟
المقالة القادمةبريد الذكريات: ماضٍ يتجدد
مساحة حرة لمشاركات القراء

2 تعليقات

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا