في ماذا يفكر هؤلاء الكبار؟!

1528

بقلم: ياسمينا نصر

في بهو فسيح في أحد نوادي الإسكندرية، يجمعنا عكازان، عكازي باللون الأحمر وعكازه باللون الفضي، ربما يعكس ذلك فارق السن الذي بيننا. رجل عجوز يرتدي كمامة، يمشي ببطء شديد ويصحبه شخص يصغره ربما بأعوام، يجلس أمامي ويتركني لأفكاري المتناقضة الغريبة.

منذ نحو ثلاثين يومًا تعرضت لحادث سيارة مروع، على أثره ألغي حفل زفافي، وجلست طريحة الفراش لا أستطيع الحركة، لا أستطيع خدمة نفسي، ولا أقوى على الحياة. أمي تجلب لي الطعام وأختي تعطيني الأدوية، أتذمر وأشعر بالغضب من قلة زيارات الأصدقاء، وتصيبني نوبات بكاء حاد بلا سبب. أقرأ بنهم وأحاول ترتيب الأحداث ولكني لا أستطيع، لا يقوى عقلي على ذلك. ما معنى أن قوتي لم تعد قوة؟! ما معنى أن حركتي أصبحت مسلوبة؟! ما معنى كلمة ضعف إنساني؟ وما فائدة كل هذا؟!

مرت أيام كثيرة برتابة وملل، ربما بتعب شديد وربما بمحبة كبيرة من قبل الأحبة، ولكن بقى السؤال بداخلي: لماذا حدث كل هذا؟ حتى رأيت ذلك الرجل العجوز، ربما في السبعين من عمره، ربما في الثمانين، لا أعرف، ولكن قميصه الأزرق وبنطاله الجينز والحزام البني الغامق يعكسان ذوقه الرفيع، عجوز صاحب خطوات بطيئة ويد مرتعشة وأذن صماء وعكازه الفضي، جعل الأسئلة تتصاعد إلى ذهني: ما حجم الصعوبة التي يلقاها ليرتدي هذا القميص الجميل؟ هل يقف على قدمه بخوف وهو يقوليا رب ما أقع لحد ما ألبس”؟ ما هي الأفكار التي تدور برأسه؟ هل يسأل نفسه أسئلة من قبيل هل أنا عالة؟ هل أنا بلا أهمية؟ هل وجودي بلا هدف؟

أنا الفتاة العشرينية صاحبة الروح المرحة، شعرت بتذمر وغضب شديد لمجرد أنني لا أستطيع الحركة لأيام معدودة، إذًا ماذا عنه هو؟ بل ماذا عن كل الكبار؟ بماذا يشعرون وهم على الفراش ليلاً؟ هل تساءلوا أسئلتي الحمقاء من قبيل من سيعتني بي إذا بقيت هكذا إلى الأبد؟ من سيجلس معي ويتقبلني وأنا مهتزة الخطوات؟

ثم جاءت أمي، المرأة التي أكملت الستين، تستيقظ كل يوم في الصباح لتوقظ هذا وتحضر الفطور لذاك، وتطمئن على قدمي، ثم تذهب إلى السوق لشراء متطلبات المنزل، ثم تحضر الطعام إلخ إلخ إلخ… هل يسأل عنها أحد؟ هل يشعر بها أحد؟ فأنا حينما قالوا لي يمكنك العمل بالمنزل أثناء فترة التعافي غضبت كثيرًا، ماذا عن سيدة كانت رمزًا للقوة ومثالاً للانضباط أصبحت اليوم على المعاش؟! هل ينتبه أحد إلى قدميها؟

في السابق حينما كانت تجمعنا المشاوير المشتركة كنت أمل من خطواتها البطيئة، كنت أرى أنها يجب أن تسرع قليلاً، لا بداعي التذمر بل لأنني أرفض أن أراها من الكبار. من منا يتقبل أن أهله من الكبار؟ من منا يتفادى هذه الحقيقة؟ من منا يتحمل خطواتهم البطيئة وذاكرتهم الضعيفة وكلامهم المعاد؟ من منا يستطيع أن يقف أمام نفسه بصدق ليسأل هل أقدم لهم ما يحتاجون؟

إذا كنت من أصحاب الروح المرحة المنطلقة المشغولة دائمًا مثلي تمامًا، أرجوك قف وفكر قليلاً، ماذا يمكنك أن تقدم إلى هؤلاء؟

اقرأ أيضًا: المتدرب العجوز

المقالة السابقةحكايات السيدات من العيادة النفسية: ما بين الرفض والقبول
المقالة القادمةفيلم Hillbilly Elegy: كيف تكسر دائرة العنف المفرغة؟
كلامنا ألوان
مساحة حرة لمشاركات القراء

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا