فيلم Hillbilly Elegy: كيف تكسر دائرة العنف المفرغة؟

1033

ما الذي يصنعنا حقاً؟ ما الذي يؤثر فينا لدرجة أن يحدد شخصياتنا، سنين طفولتنا وشبابنا والأسرة التي تربينا فيها، أم عقولنا التي تدرك الصح والخطأ وتستطيع التمييز؟

هل يمكن لعقلك أن يميز الصح والخطأ أصلاً رغم أنه ترعرع في بيئة خاطئة تمامًا؟ من أين نستقي قيمنا؟ وما الذي يحدد قيمتنا؟ هل قوتنا النفسية يمكن أن تصمد أمام العنف والاضطراب وتنقذنا من مصير مظلم؟ هل هي فروق فردية أم أنها كلها مقدمات تؤدي إلى ذات النتائج؟

بمعنى أكثر بساطة ومباشرة، هل هناك أي فرصة للشخص الذي تربى في بيئة مضطربة ومعنفة أن ينجو؟ هذا ما يجيب عليه فيلم Hillbilly elegy.

مرثية الولد الريفي

عائلة تبدو مترابطة وسعيدة، يستعدون للعودة إلى مدينتهم بعد قضاء صيف سعيد مع العائلة الكبيرة الممتدة في الريف، يصطفون ليلتقطوا صورة سنوية تجمعهم معًا، فيخيل لك للحظة أنها العائلة الحلم التي حُرِم منها الكثيرون والتي تعد بالكثير من الهناء. بالتدريج تتعرف على الشخصيات، الراوي البطل الذي يحكي لك قصة مراهقته وشبابه “جاي دي فانس”، التي قضاها مع أمه “بيفرلي” وأخته “ليندسي” وجدته. تتضح الصورة أكثر لتعرف ضمنًا أن جدته مطلقة من جده، الذي يعيش على مقربة منهم، بعد قصة حب أسطورية، جعلتها تهرب من البلدة معه وهي في الثامنة عشر من عمرها، عندما حملت في ابنتهما “بيفرلي”، وأن “بيفرلي” أم عزباء تركت المدرسة الثانوية ولم تكمل تعليمها.

قصة حقيقية عن المحامي الناجح الذي يروي قصة حياته، والتي تكتشف عن طريقها الكثير عن حياة أمه “بيفرلي” وعن طفولتها مع أمها وأبيها، قصة حقيقية عن الحب والعنف والعائلات المسيئة، وكيف يمكن لتاريخ متشابه أن يصنع شخصين مختلفين تمام الاختلاف، وكيف يدرك الكثيرون أخطاءهم بعد فوات الأوان، فيحاولون تصحيحها مع الأشخاص الخاطئين.

تعرفي أيضًا على: 13 علامة على وجود والدٍ مسيء لا يدركها أكثر الناس

التمثيل

الفيلم بطولة إيمي آدامز في دور “بيفرلي”، والتي قدمت أداءً جيدًا جدًا لدور الأم الهستيرية المدمنة، التي تُحمِّل الآخرين مسؤولية خراب حياتها، والتي تحب أبناءها، ولا تستطيع في نفس الوقت أن تدرك أن الحب ليس كافيًا لحماية هؤلاء الأبناء من شرور شخصيتها.

استطاعت إيمي آدامر أن تتأرجح جيدًصا بين شخصيتي الأم والشابة، الأم التي تحب أبناءها والشابة التي لا تحب سوى نفسها. مشاعر الإحباط والذنب والغضب والعنف والحب والكراهية كانت جلية في أدائها ومظهرها، لدرجة تحملك على كراهيتها رغم تفهمك لها أحيانًا، ولكنها تلبست الشخصية بشكل جيد جدًا، ولذلك أنت ترى “بيفرلي” بوضوح، وتستطيع أن تكوِّن رأيًا جادًا عنها.

تشاركها البطولة، بل وتتفوق عليها، جلين كلوس في دور الجدة. أداء جلين كلوس كان من أفضل عناصر الفيلم. أداء خاطف للبصر ومقنع إلى درجة البكاء في الكثير من المواضع.

الشخصية القوية المحبطة المعترفة بخطئها، والتي تعرف توابع هذا الخطأ وتعيشه في كل يوم، وتحاول التكفير عنه في الحفيد.

الشخصية المهزومة بحكم السن، والحقيقة التي تجلت لها واضحة بعد مرور السنوات التي أفقدت هذه الشخصية جبروتها، ومع ذلك ورغم محاولاتها في إنقاذ الجيل الثاني بعد فوات أوان إنقاذ الجيل الأول

إلا أنها تحتفظ بملامح من هذا الجبروت القديم، متمثلاً في السيجارة التي لا تفارق أصابعها، وفظاظتها أحيانًا، واعترافها أنها لم تكن طيبة دومًا، ولكنه الفهم الذي يأتي متأخرًا. قدمت جلين كلوس كل هذه التفاصيل بسلاسة مدهشة، أعطت الفيلم وزنًا إنسانيًا حقيقيًا.

تعرفي على: Ben is back: الأمومة التي لا تعرف الاستسلام

أما الراوي “جاي دي فانس” والذي قام بدوره شابًا جابرييل باسو، فقد قدم أداءً جيدًا للشاب المتأرجح بين عقله وقلبه، الشاب المثقل بتاريخ عائلته، والذي يتطلع لحقه في مستقبل سوي يعمل له جاهدًا. معضلة أخلاقية حقيقية استطاع باسو أن يتقنها، أما “جاي دي” المراهق الذي لعب دوره أوين أزتالوس فكان أفضل ربما. المراهق التعس الذي لا يفهم لماذا بالتحديد أعطاه القدر هذا الكم من المتناقضات، وكيف عليه أن يتعامل معها.

الفيلم من إخراج رون هوارد، الذي استطاع أن يقدم قصة درامية جيدة جدًا دون ملل، رغم أن السينما الاجتماعية لم تعد تحظى بنفس الأهمية في السنوات الآخيرة، ولكنه استطاع أن يقدم فيلمًا دراميًا اجتماعيًا مهمًا وجيدًا في نفس الوقت، وقد كان موفقًا جدًا في اختيار الممثلين من حيث الأداء مع تطابقهم الشكلي تقريبًا للأشخاص الحقيقيين، كون الفيلم مأخوذًا عن مذكرات “جاي دي فانس”، التي نشرت في كتاب يحمل نفس الاسم.

نتائج العنف الأسري على الأبناء

فتاة تخلت عن كل شيء من أجل فتى يحبها، تخلت عن تعليمها وبلدتها وذهبت معه ليبدآ معًا حياة ظنت أنها سوف تكون مثالية. النتيجة كانت زوجًا وزوجة تعيسين يكرهان بعضهما لدرجة جنونية، أب وأم لا يكفان عن الصراخ، منزل عنيف يتشاجر فيه الأبوان دومًا، لدرجة تدفع البنتين للاختباء في خزانة الملابس ومراقبة تطورات الشجار من بين فتحات الباب الضيقة، صراخ ضرب عنف كراهية سباب، عنف منزلي كما جاء في كتالوج العنف المنزلي. النتيجة ابنة مختفية تمامًا من حياة أبويها، وابنة أخرى متسربة من التعليم، مدمنة، أم عزباء لبنت وولد، تتنقل بين الأحباء سريعًا وتجر أبناءها معها في كل علاقة غرامية فاشلة تدخلها، موظفة مطرودة من كل الأعمال التي تلتحق بها، لإدمانها أو لاستهتارها، تضرب أبناءها وتصرخ فيهم، وتكرر دائرة العنف التي تعرضت لها في طفولتها، رغم أنها مدركة تمامًا لما تعرضت له.

الأمر مرعب. هل العنف المنزلي الذي ينتج أطفالاً مأذيين ومضطربين يجعلهم هم أيضًا آباء مُعنفين؟ الإجابة -كما يبدو في الجزء الأول من الفيلم- نعم، العنف المنزلي يؤذي الأطفال صغارًا، ويولِّد لديهم مشكلات نفسية وعقدًا لا يستطيعون التعامل معها، فتضطرب حياتهم وتنتهي بهم إلى أن يكونوا هم أنفسهم آباء سيئين. دائرة لا تنكسر. مَن تعرَّض للعنف في طفولته يكبر ويعرض أطفاله لنفس العنف.

هل هناك أمل؟ هل يمكن للإنسان أن ينجو من مصير أبويه؟ الإجابة في الجزء الثاني من الفيلم هي نعم، لحسن الحظ، استطاع أبناء “بيفرلي” التي أعطتهم طفولة مضطربة، وكانت حملاً عليهم في شبابهم، وأذى لا يستطيعون الفكاك منه، أن ينجون بأنفسهم ويشقون طريقهم ليصبحوا أشخاصًا أفضل. الفتاة استطاعت أن تتزوج وتكوِّن أسرة سعيدة، والفتى استطاع أن يتعلم وينجح ويتزوج هو الآخر، وتصبح سيرته إلهامًا لصناعة فيلم نتحدث عنه اليوم.

دور الوعي في إيقاف العنف

“بيفرلي” لم تستطع أن تنقذ نفسها من عنف والديها، وبالتالي أصبحت هي نفسها أمًا مسيئة، أما “جاي دي” و”ليندسي” أخته فقد استطاعا ألا يكونا مثل أمهما، بل ساعداها عندما ساء إدمانها وتحملا مسؤوليتها، رغم أنها لم تتحمل مسؤوليتهما يومًا، وكانت دومًا متمحورة حول نفسها، إذًا ما الفارق؟ لماذا يمكن للبعض أن ينجو ولا يمكن للبعض الآخر سوى أن يكرر سلسلة العنف ويدور في نفس الساقية المقيتة؟ الإجابة كما يقدمها الفيلم كانت الوعي.

“بيفرلي” لم تعِ قط أن هناك مشكلة يجب أن تنقذ نفسها منها، انغمست في الرثاء لنفسها، وفي محاولات تسكين الآلام التي تشعر بها، جراء الحياة العنيفة التي عاشتها في منزل أبويها.

لم تحاول أن تستقل عنهما، بل عاشت بالقرب منهما، في حاجة دومًا إلى مساعدتهما.

“بيفرلي” لم تعِ أن هناك ما يجب أن تعالجه، كانت دومًا تسمي الأشياء بغير أسمائها، فإدمانها راجع لضغط العمل، وهستيريتها راجعة لتصرفات ابنها المستفزة، وفشلها في العلاقات راجع لسوء الرجال الذين ترتبط بهم، لم تتحمل مسؤولية أي شيء.

أما “ليندسي” و”جاي دي” فقد كان لديهما وعي كامل بحياتهما، كانت “ليندسي” تعرف أن المشكلة في أمها، وأنها لا تريد أن تكبر لتصبح مثلها، فكانت تقضي معظم أوقاتها خارج المنزل، وتكوِّن علاقات صحية مع الآخرين، بعيدًا عن الجو المريض لأمها ولمنزلهم

“جاي دي” ساعدته جدته على أن يعي أنه مسؤول مسؤولية كاملة عن مستقبله، مهما حاولت أمه تخريب ماضيه، جعلته يعي أهمية التعليم ويعي قدراته التي تؤهله لأن يتلقي تعليمًا جيدًا يمكنه إنقاذه من بؤرة العنف التي تحتلها أمه.

الوعي هو كلمة السر، لو كنت واعيًا سوف تعرف كيف تنقذ نفسك، سوف تجد طريقًا ما يمكنك التسلل من خلاله إلى النور. إذا لم تعِ ما يحدث حولك سوف تكون نسخة من “بيفرلي” في الفيلم.

الوعي هو ما ينقذ الإنسان، بالطبع احتاج البطل مساعدة جدته في أن ينقذ نفسه، ويخرج عن دائرة أمه من الجنون والعنف، ولكن حتى لو كانت جدته حاولت إنقاذه وظل هو متحجر العقل كانت ستفشل، الوعي والإيمان بقدرتك على تغيير واقعك ومستقبلك، واقتناعك بأنك أنت الوحيد المسيطر على حياتك هو ما سينقذك.

المقالة السابقةفي ماذا يفكر هؤلاء الكبار؟!
المقالة القادمةإلى ابنتي شغف
كاتبة وصحفية مصرية

1 تعليق

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا