حكايات السيدات من العيادة النفسية: ما بين الرفض والقبول

1036

بقلم: دينا محمد يوسف

في المجتمع المصري وبينما يعد المرض النفسي مرادفًا للمرض العقلي أو الجنون، وبينما تلاحق الوصمة الجميع فلا ينجو منها أحد، سواء كان ذكرًا أم أنثى، كان من الصعب أن تذهب فتاة في التاسعة عشرة من عمرها إلى العيادة النفسية، لتشكو من ضغوط تجعلها غير قادرة على سلك سبل الحياة، تحاول التخفي لئلا يراها أحد، تتجه نحو المستشفى الجامعي، تنتظر دورها أمام العيادة النفسية، والتي تحمد الله لأنها تشارك عيادة الأنف والأذن الطابق نفسه، حتى إذا رأت أحدًا يعرفها تخبره أنها هنا من أجل ألم الحلق، لا وجع في النفس. في رحلتها القصيرة تلتقي بزوار العيادة، ربما زيارة واحدة لا تكفي للحكم على زوار العيادة، لكن بنظرة سريعة ترى أن الذين جاؤوا برفقة ذويهم، إما حالتهم كانت صعبة لدرجة أنهم أصبحوا يمثلون خطرًا، أو أطفال يواجهون مشكلات، لأننا لم نعِ بعد أن المريض النفسي لا يجب أن يحطم الأثاث أو يشق ثيابه من أجل أن يستحق العلاج والالتفات له.

رانيا ونوبات الهلع: كيف تنجو؟

تقول “رانيا” ٢٥ سنة: “كنت أعاني من نوبات الهلع، لم أكن أعرف ما هي حينها، ظننت أنها مشكلة في التنفس، لكن طبيب الصدر أحالني إلى الطبيب النفسي، حينها رفض والدي بشدة، كان يرى أنني لست مريضة، طالبني أن أصلي وأقرأ القرآن، ولكن صديقتي الطبيبة هي من ساعدتني لأذهب إلى طبيب نفسي، كانت رحلة صعبة، تحتاج المال وفي بعض الأحيان لم أكن أجد بعض الأدوية، لدرجة أنني حينما وجدت العلاج في صيدلية ما بكيت، كما أنني كنت أخفي الدواء بحيث لا يراه أحد”.

ما بين الرفض والقبول: رحلة ألم

أول الصعوبات التي تقابل النساء في رحلة علاجها، أنهن يقابلن بالرفض، فمن الخوف من المرض النفسي نفسه، إلى الخوف من أن يؤثر العلاج على فرصها في الزواج، تقول د/ نهال زين طبيبة الأمراض النفسية بمستشفى بني سويف: “في بعض الحالات يرفض الأهل أن تتعاطى ابنتهم دواء قد يساعد في شفائها، من أجل فرصها في الزواج، فكيف تتناول العلاج وكيف يعرف زوجها بذلك، كما تذكر أن إحدى الحالات قد رفضت البدء بالعلاج الذي سيؤثر على حالتها، خوفًا من أن يعرف زوجها بأنها مريضة نفسية، وعلى الجانب الأخر يلجأ بعض الأهالي لتزويج أبنائهم الذكور حتى تحل مشكلاتهم النفسية”.

تحكي “دنيا” ٢٣ عامًا: “حينما يتقدم شاب إلى خطبتي أو حتى يصرح بالإعجاب بي، كانت صديقتي تنصحني بألا أخبره أنني أعاني من اضطراب نفسي، حتى لا يهرب مني، كما كانت تقول أمي دائمًا، وحتى إذا ذهبت إلي طبيب سيصف لك علاجًا دوائيًا، فتذهبين لبيت زوجك وأنت تحملين علبة الدواء في حقيبتك، ما الذي تريدين أن يقوله الناس عنا!”. تتابع دنيا بأسى: “ذهبت لأربعة من شيوخ العلاج، طقوس مرهقة لمن هم في حالتهم الطبيعية، لا لمن يشعر بالألم ضعفين مثلي، رائحة البخور والمسك ألهبت جيوبي الأنفية والاستحمام بالماء البارد، حتى أن أمي ذهبت إلى أحد المشعوذين ليخبرها أن جارتنا هي من وضعت العمل في طريقي، بينما يصر المعالج بأن جنًا عاشقًا يسكنني ويريدني لنفسه، لذلك أؤذي نفسي، وعلى الرغم من كل ذلك رأوا أن الذهاب لطبيب نفسي وحده ما سيدمر سمعتي”.

فخ الخوف من المرض النفسي

تقول د/ حسناء الدباوي طبيبة الأمراض النفسية بمستشفى العباسية: “إن الاعتماد على المشايخ والمعالجين لا يقتصر فقط على النساء، بل يمتد إلى الرجال أيضًا، ويعاني الأطباء الأمرين من أجل إقناع الأهل بأن المشكلة نفسية”.

في زيارتي السريعة للعيادة النفسية، شاهدت فتاة تعاني من مشكلة كبرى، فقد كانت الفتاة لا تعرف شيئًا، بصحبة جدتها العجوز، وكانت تلك الجدة بمثابة صورة مصغرة للمجتمع، بدأت العجوز في فحص جميع الواقفين، فتشاغلت بهاتفي عنها، وحينما وجدت امرأة شابة سألتها عن الذي أتى بها إلى هنا، حينها جاوبتها المرأة أنها تعاني من اكتئاب ما بعد الولادة، مصمصت العجوز شفتها وأبدت امتعاضها مما سمعت، فكيف تعاني امرأة من الحزن بعدما أنجبت، لقد رزقت بما تحلم به غيرها، كما أدلت بدلوها، فمؤكد أن السيدة قصرت في شيء عند ولادتها، ربما لم ترش الملح أو أن أنها أغضبت أخت زوجها، والمقصود بها أخته من الجن. حاولت الشابة أن تصحح الفكرة ولكنها لم تفلح في الأمر، بدت على وجه الشابة تعابير خيبة الألم، وأكاد أجزم أن تلك السيدة لم تكن الأولى التي تخبرها بذلك.

لماذا النساء هن الأكثر عرضه للمرض النفسي؟

د/ نهال توضح: بشكل بيولوجي فإن هناك محطات في حياة النساء، تعرضهن لأحداث مثيرة للتوتر أكثر من الرجل، ذلك لا يعني أن الأمراض النفسية لدى النساء أكثر من الرجال، ولكن هناك بعض المحطات تحمل تغيرات هرمونية وتعرضهن للضغط، مثل متلازمة الدورة الشهرية أو الحمل أو ما بعد الولادة، فتلك ضغوط بيولوجية قد تؤثر على الحالة النفسية، كما أن هناك بعض الأدوية التي يمنع وصفها بسبب الحمل أو الرضاعة، وهناك أيضًا بعض السيدات اللائي يكن خائفات من تناول الأدوية في تلك الفترة، حتى وإن كان استعمالها آمنًا عليهن. بالطبع هناك بدائل، كما أن هناك تطورًا في سوق الدواء دائمًا، لكن تلك أيضًا تعد صعوبة تواجه النساء على وجه الخصوص.

فالمجتمع لا يمتلك الوعي الكافي، لاستيعاب مشكلات النساء البيولوجية، بل أن البعض قد حول الهرمونات إلى نكتة، والكثيرات ممن هن غير ناضجات اتخذنها كعذر قبيح للتصرفات غير المقبولة، وهو مما يصعب أكثر الدور التوعوي بمشكلات النساء، كما أن تلك الضغوط لا تقف عند حد الاكتئاب فقط، بل قد تصل في بعض الأحيان إن لم يتم التعامل معها وعلاجها إلى أفكار انتحارية، وأفكار لإيذاء النفس أو الطفل.

من الصعوبات التي تواجه النساء أيضًا، أنها لا تتمكن في بعض الأحيان من الدخول للمستشفى من أجل الأطفال، فمن سيراعي شؤونهم بينما هي في المستشفى، على الرغم من أن الحجز يكون من أجل الحفاظ على حياتها.

ضغوط الأسرة والمجتمع

يمارس بعض الأزواج الضغط على زوجاتهن من أجل ترك العلاج النفسي. تقول “أمل” ٢٨ سنة: إنها توقفت عن العلاج بسبب عدم تفهم زوجها. وتسترسل قائلة: إن الأب أو الزوج يكونا غير قادرين على تفهم فكرة أن رجل آخر يمكنه تقديم المساعدة، كما أن بعض الأزواج يرون أن النساء تبالغ في رد فعلهن.

بشأن ذلك تقول د/ حسناء: “تواجه النساء دائمًا فكرة عدم تصديق أعراضهن، فهم يرون أنها تفعل ذلك في بعض الأحيان من أجل الهروب من مسؤولياتها تجاه زوجها وعائلته، كما أن بعض الأزواج لا يتحملون زوجاتهم، خصوصًا في بداية العلاج، فقد تسبب الأدوية شعورًا دائمًا بالنعاس، فلا تتمكن من القيام بدورها في المنزل، مما يغضب الزوج، فتتوقف المرأة عن العلاج، أو اتجاه الزوج إلى الزواج من امرأة أخرى. وفي بعض الحالات التي تستدعي المكوث في المستشفى يرفض الزوج، لأنه لا يريد تحمل نفقاتها في المستشفى، وفي بعض الأحيان يحاول إخراجها قبل موعد خروجها من أجل الحصول على حقوقه الشرعية، وهناك بعض الأزواج الذين يشعرون أن مرض الزوجة يثقل كاهله، فيطلقها أو يحضرها للمستشفى ويرفض استلامها، وفي بعض الأحيان قد يعطي المستشفى معلومات مغلوطة حتى لا تتمكن المستشفى من التواصل معه”.

المشكلات المالية أو تكاليف العلاج، عقبة كبرى أيضًا في طريق العلاج، فحينما لا تتمكن الفتاة من دفعها ستحتاج إليها من والدها، والذي هو أصلاً لا يقتنع بجدوى العلاج. تحكي “دنيا” عن ذلك: “كنت أذهب للعيادة النفسية أثناء وجودي في الجامعة، ولكنني حينما عدت إلى المنزل وأنهيت دراستي انقطعت عن العلاج، ولم أعد قادرة على تحمل نفقات العلاج”.

أخيرًا الصعوبات لا تواجه المرضى فقط بل تواجه الطب النفسي كتخصص، فما زال يصارع ليثبت نفسه، ليس هنا فقط بل حول العالم، ففي القطاع الطبي نفسه لا يعترف بعض الأطباء بتخصص النفسية، فهو أصلاً يبحث عمن يدعمه ويقويه.

حينما سألت الفتيات عن إضافة أخرى قالت “دنيا”: “أتمنى لو أنني مصابة بالسرطان، على الأقل كان الجميع سيدعمونني”. على الرغم من كل ذلك فإنه يبقى هناك الأمل والتغيير في طريقه للحدوث، ففي جيلنا أصبح الكثيرون لا يخجلون من المرض النفسي. وأملي أن يأتي ذلك اليوم الذي نرى فيه المرض النفسي يقابل بالدعم كالضغط والسكري والبرد.

المقالة السابقة5 خطوات للخروج من دائرة العنف الأسري
المقالة القادمةفي ماذا يفكر هؤلاء الكبار؟!
مساحة حرة لمشاركات القراء

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا