بقلم: بسمة محمود
عن ذلك اليوم الذي مشيتُ فيه وحدي من سبورتنج إلى محطة الرمل.. عن المسافات.. هل تُقطع المسافات بالأقدام وحدها؟ وهل تُقاس بالزمن أم بالألم الذي قطعها معنا؟ المسافات التي قطعناها وحدنا وسقطت أدمعنا في شوارعها، وجفت لتبقى شاهدًا وأثرًا، ينغز القلب تلك النغزة كلما واتتنا الشجاعة أن نمر فيها لاحقًا.
مسافات لا تخضع لحسابات السرعة والزمن
لا تخضع لقوانين حساب السرعة، المسافة على الزمن، إذ كنا خارج الزمن. مشيناها بلا زمن، حتى وإن توقفت الأقدام، إلا أنها استمرت تمشي هي فينا، وما زلنا نحاول أن نوقف سريانها في أعماقنا، فلا وحدات قياس تجدي، وإنما قس بغزارة الدموع التي رآها الغرباء ونحن نداريها. وفي أيام، لم نكن نستطيع أن نتستر منها، ومشينا نحملها في أعين جامدة كزجاج السيارات، أعين مسكونة بغيوم ولكنها بدت للمارين تنظر وترى بوضوح. قس باللا زمن أو بالنسيان أو بمحاولات الشفاء، فإن أطول المسافات عُمرًا هي التي قطعناها دون أن نشعر بها، هي مسافة ما بعد الخذلان، يوم أن تعرف أن حبيبًا يسكن قصص أحلامك لا يبادلك القصة.. المسافة التي تمشيها وحدك بعد أن تعرف أنه يحب آخر، ليس أنت.
اقرأ أيضًا: ماذا بعد رحيل الاحباب! كيف شكلتني تجارب الفقد والرحيل؟
مسافات من المشاعر
مسافات من بُكاء مكتوم، ومرارة في الحلق وقلب مُحطم. قدم مُتعبة من قصة ظلت تُحكى في الخلفية، خلفية الحياة، حتى الوصول لأول ركن مهجور، والاستسلام للتعب من الخذلان، هي اليوم الذي سقطت فيه أمي ولم تستطع الوقوف، فمشيتُ من سبورتنج إلى الرمل دون توقف. لا أذكر يومها إلا أجراس كنيسة، شعرت لوهلة أنها كانت تدق في داخلي، وشعرت بأنها رسالة طمأنة من الله، ورفعت وجهي للسماء، في صمت أو عجز كامل عن النطق، كان صمتي يحوي صخب المدينة المزدحمة. وسرت رعشة سبتمبر الباردة في أوصالي، فمددتُ يدي أتلمس وشاحي الأزرق، فلم أجده على كتفي.
حمله هواء الإسكندرية وبدده في زرقة البحر. عرفتُ في تلك اللحظة أنني كنت على أعتاب الفقد، ثم فقدت أمي. وكانت المسافة بين تلقي ذلك الخبر ووصولي إليها، أطول مسافة أقطعها في حياتي. وما زلت أقطعها.. وأمشيها وحدي. أتوقف أحيانًا مذهولة، أو ربما لألتقط أنفاسي، أنظر خلفي، أمامي.. لا أرى إلا المسافة! تلك المسافات هي نحن.. لا تحولوا مساركم عنها لو وقفت عندها أقدامكم. مروا بها عندما تُشفى الروح، شاهدوا ماذا غيرت في داخلكم، وماذا تركتم أنتم فيها من أثر. تلك المسافات جعلت منكم أشخاصًا آخرين، لم يكونوا قبل أن يمشوها، وتركتم أنتم فيها قصة، هي وحدها تعرفها وتظل لكم ممتنة بمنحها شيئًا ما جعلها حية، تشعر أكثر مما يدعون الشعور.
اقرأ أيضًا: ما فعلته بي الوحدة وفرط التحمل
وما زلت أقطعها.. وأمشيها وحدي. أتوقف أحيانًا مذهولة، أو ربما لألتقط أنفاسي