ربما لا مفر من أن تسلبنا الحياة ما يعز علينا فقدانه. ربما نقترب أكثر من فهم الحياة إن أدركنا أن الفقد جزء من اكتمال تجربتنا على الأرض. والفقد معنى شاسع يتسع للأشياء والفرص والأشخاص، يتسع للمرض والموت والعلاقات منتهية الصلاحية. على مر سنوات عمري التي جاوزت الثلاثين، اختبرت مرارًا أن تتبخر مني بعض الأحلام لتنفلت من بين يدي كدخان يتطاير، لكن أقسى تجاربي مع الفقد كانت في صورتين، إحداهما أقل وجعًا بسفر صديقتَي عمري، والأخرى -وهي الأصعب- كانت بوفاة جدتي، أحَب أهل الأرض إلى قلبي.
هل نتجاوز حزن الفقد
هدأت مشاعري بعد أن نالت التجربتان من قلبي، واتخذ الفقد شكلاً أكثر هدوءًا مع الأيام، رغم ما انطبع في القلب من ندبات، لأجدني أقف مطولاً أمام سؤال: هل نتجاوز الحزن فعلاً بعد تجارب الفقد؟ ربما صحيح ما يتردد عن أن الحزن يولد كبيرًا ثم ينتهي، فمن نعم الله على عباده أن وهج المشاعر الأولى يخفت دومًا، لكنني أشك في أمر نهايته. يختبئ الحزن في مكان قصي في القلب، يتوارى خلف مشغوليات الحياة وأحداثها، لكنه أبدًا لا ينتهى.
في كل مرة كانت تتجدد مشاعر افتقادي للراحلين، سواء بسفرهم إلى بلاد أخرى، أو بسفرهم إلى العالم الآخر. كنت أتيقن أن وجع الرحيل منطبع في القلب، حتى وإن خفت حدته. يكفي المرء فقط موقفًا صغيرًا اعتاد فيه وجود أحبابه الراحلين، ليتجدد في قلبه ما ظن أنه قد تجاوزه.
يا صديق عمري يا صاحب ذكرياتي.. إنت كنز أيامي تحويشة حياتي
من مدرسة واحدة، وكلية واحدة، وجيرة، وأجساد لا تتفارق إلا وقت النوم، إلى قارتين مختلفتين تضم ثلاثتنا، هكذا يمكنني تلخيص خمس سنوات من فقد صديقتَي بالسفر. يقال فقد الأحبة غربة، وأنا اختبرت مشاعر الغربة في مدينتي، صارت مدينة لا أعرفها دونهما. اختبرت للمرة الأولى أن أعايش يومي بلا صديقتَي، أن أفعل كل ما اعتدت فعله، لكن دونهما.
وجدت التعزية والتفسير في كلمات تتر مسلسل الأصدقاء: “ياصديق عمري يا صاحب ذكرياتي.. إنت كنز أيامي تحويشة حياتي”، هذا بالضبط ما سلبه مني سفرهما، فجأة شعرت بأني فقدت “تحويشة عمري” من الصُحبة والونس والذكريات.
كل فرح بعيد عن الأحباب وجع متنكر
خمس سنوات من غياب صديقتَي تخللتها إجازات قصيرة. أظنني صمدت وتأقلمت إلى حد كبير على الغياب، لكني لم أستسغه أبدًا، ثمة غصة كانت موجودة دومًا بحلقي ونغزة مستقرة بقلبي، اختبرت المعنى الحقيقي لما يقال: “كل فرح بعيد عن الأحباب وجع متنكر”، غابوا عن مناسباتي المهمة، ولم أكن معهما في أوقات الفرح والحزن للاحتفال والمواساة، فصار كل حدث منقوصًا.
كان سفر صديقتَي بداية التوثيق لتحولي لشخصية تؤثر الصمت، لم أعد أفهم كيف بإمكاني أن نتشارك حديثًا عبر وسيط تكنولوچي، كيف أحكي لهما عن يوم لم تشاركاني فيه. بات صمتي شكلاً من أشكال عدم تقبلي -لا شعوريًا- لأن تفصلنا قارات. امتد عدم تقبلي اللا شعوري لسفرهما بأن يكون وداعي لهما في نهاية كل إجازة سريعًا للغاية. كنا نضلل أنفسنا بالسلام السريع، كما لو أننا لن نغيب لفترة طويلة، كما لو أن لا جبال وبحار ستفصلنا، كما لو كنا نخدع المسافات والوقت الطويل.
لم أقوَ يومًا على مرافقة أي منهما إلى المطار، هما هنا لم تسافرا، فعلامَ الذهاب إلى المطارات إذًا؟!
على أي حال، لانت لنا الأيام، وأنهت سنوات الغربة العجاف وعادت صديقتاي، لكن ما طبعه الفقد في القلب سافر بي إلى مكان لم أعد منه بعد.
الجدة منجم حياة، يتناسب حظ الواحد طرديًا مع الفترة التي يسمح له بها القَدر للتوغل بعيدًا داخل أعماق هذا المنجم – عمر طاهر
يأتيني صوت أمي عبر الهاتف باكيًا: “تيتة تعيشي إنتي”، كنت وقتها في رحلة سفر سريعة مع بعض الأصدقاء. أتماسك كعادتي في اللحظات الأولى لاستقبال أي خبر صادم، أواسي أمي وأهدئ من روعها. أفهم فيما بعد أن صمودي وقت الكوارث ليس ثباتًا انفعاليًا، وإنما إنكار مؤقت لما حدث.
رحلت جدتي؟! هكذا دون علامات مسبقة تُنبِّيء بالرحيل؟! دون وداع؟! دون أن أتمكن حتي من اللحاق بمراسم الدفن؟! دغدغت الأسئلة رأسي وتآكل عقلي من عدم التصديق، لكن كعادتي كان مظهري ثابتًا. كانت جدتي منجمًا يضم أثمن الكنوز الحياتية، رحلت فجأة فاختفت الكنوز وبقي خواء مرعب.
تعرضت لاضطرابات نوم حادة بعد رحيل جدتي، لم يكن الأرق جديدًا عليَّ، فهو صديق مخلص، لكن كان الجديد نوبات الفزع تلك، أنام قليلاً ثم أستيقظ في فزع وخوف لا أعلم مصدره. صارت غرفتي الصغيرة كبيرة للغاية فجأة، كنت أشعر بضآلتي فيها وخوفي منها، ما عادت جدرانها تحتويني. لم أعد أغلق باب غرفتي عند النوم، كيف لي أن أحتمل غرفة تُغلق عليَّ أنا وفزعي واضطرابي؟
علام الخجل من خوفي؟
أذكر مرتين استيقظت فيهما في فزع بعد رحيل جدتي، جلست بعدهما لدقائق في فراشي ألتقط أنفاسي كما في مشاهد الأفلام، كانت دقات قلبي تتزايد، أحاول الرجوع مرة أخرى للنوم، لكن الفزع يصارعني معلنًا: لا نوم اللية. اختبرت معنى الخوف المخجل، أن تستيقظ فزِعًا -وأنت في تلك السن الكبيرة- فتهرع في غير وعي لغرفة إخوتك أو والديك، وأنت لا تملك إجابة على سؤال: ما بك؟! أخجلتني نوبات فزعي تلك لأنني بعد أن أهدأ كنت أكتشف أنني فررت كالطفلة لأندس في فراش أمي أو الفراش المجاور لأخي. كنت أخجل إن استيقظ أحدهم بسبب هذا الفزع الذي لا يليق إلا بطفلة.
مع الوقت لم أعد أخجل. علمني الفقد أن أتصالح مع ضعفي، وألا أخجل من إنسانيتي، فعلام الخجل من خوفي؟! صارت إجابتي عن سبب استيقاظي ليلاً أوضح: “مخضوضة”. مرت الأيام لأكتشف أن لطف الله موجود على الدوام، صحيح أن رحيل جدتي المفاجئ زلزلني، لكنه كان من لطف الله بي وبها في الوقت نفسه، لم تتعذب بمرض، ولم أتعذب برؤيتها تتألم. رحلت رحيلاً هادئًا يليق بشخصها.
ما بعد الفقد
فقدت صديقتَي مؤقتًا، وفقدت جدتي الحبيبة إلى الأبد، وبين التجربتين فقدت جزءًا من نفسي لم أسترده أبدًا. علمتني التجربتان أن الفقد يعيد تشكيل المرء، ويدفعه لمعايشة حياته بعد استبعاد عنصر لم يكن يتصور مرور الأيام دونه. تعلمت من التجربتين أن قوة الإنسان الحقيقية ليست في صموده وقت تلقي الصدمة، وإنما في كيفية تعامله مع الحياة بعد أن تتغير معطياتها.. بعد الفقد.
أما ما خرجت به كخلاصة لما بعد الفقد:
إدراك الخسارة
أن يعي المرء أن شيئًا أو شخصًا أو فرصة قد انتهت قصتها من حياته للأبد. أن يواجه فكرة الخسارة ولا ينكرها، فمنازلة الخسارة وجهًا لوجه بتقَبُّلها مرحلة أولى في التجاوز، لأن إنكار الفقد ما هو إلا تأجيل لموعد الانفجار.
عدم مغالبة الانهيار
واشعر ساعات إن البكا غيمة.. ينزل مطر ويطهر الإنسان
ألا يغالب المرء ضعفه، أن يبكي وينهار، كل وسائل التنفيس عن المشاعر السلبية دواء. تغَّنى بذات المعنى محمد رحيم قائلاً: “واشعر ساعات إن البكا غيمة.. ينزل مطر ويطهر الإنسان”. يبقي فقط المهم أن يختار المرء بعناية من يتعرى أمامهم من قوته الزائفة ويشاركهم ضعفه، مع الحذر من الوقوع في فخ التحول إلى ضحية تبكي حظها ليل نهار. فمن المهم أن يبقى الحزن نبيلاً، غير ملوث بشحذ عطف الآخرين، أو استجداء مشاعرهم.
مقاومة الانخراط في الحزن
من المهم أن يكون الاستسلام للحزن بقْدر، وأن ينتشل المرء نفسه من الاستغراق فيه لفترة أطول مما ينبغي، وأن يُكره نفسه على الذوبان وسط المجتمع ومعاودة روتينه المعهود. والأهم ألا يتصور المرء إنْ وجد نفسه قد تخفف من الحزن بعض الشيء أنه قد أساء بذلك لذكرى المفقود، أو أنه ارتكب خيانة القدرة على مزاولة الحياة في الوقت الذي ينبغي أن تتوقف فيه الحياة حدادًا على ما فقد. لم تكن أبدًا القدرة على التخفف من الحزن مع عِظَم المفقود خيانة، وإنما هي من أوجه رحمة الله بعباده. فالتخفف من الحزن، تخفيفًا إلهيًا يلهمه الله للقلوب الملكومة.
هتنتهي ولا بد راح تنتهي
هتنتهي ولا بد راح تنتهي، مش انتهت أحزان كتير قبلها؟
أن يردد المرء على نفسه أن ذاك الشعور المقبض سيزول، وأن الحزن سيصغر، أو بالأحرى سيتراجع إلى مكان قصي في القلب، وستمضي الحياة رغمًا عن أنف أكبر الخسارات. وفي ذلك عزاء وسلوى للقلوب المُنهكة، وانعكاس واضح للطف المولى الخفي. يبتلي الله ويخفف، ويهدينا النسيان ويرزقنا نعمة البدء من جديد عقب كل فقد، مهما كان حجم الفاجعة. وكما قال صلاح چاهين: “هتنتهي ولا بد راح تنتهي، مش انتهت أحزان كتير قبلها؟”.