عندما يخرج الفن من رحم الحزن

1439

بقلم: ياسمين غبارة

هل الحزن كيانٌ كامنٌ فينا، أم هو طيف ينتابنا نحاول أحيانًا مقاومته بابتسامة ولو مُتَصنّعة، بتأمل شيء جميل، وبأن نُحصي كل ما هو نعيم من حولِنا، وعند آخر رقم نُحصيه قد تتفتح بداخلنا منافذ للنور؟! يجعل الحزن قلوبنا منحجرة، مُظلمة، وأي شق من نور فيها يكون كالهواء، كالشهيق بعد الخروج من الماء، ولكن مقاومة الحزن ليست سهلة، فالمقاومة تعني الإرادة، والإرادة تحتاج إلى عزم، والحزن يجعلنا مسلوبي الإرادة، فاقدي الرغبة، خاوين من أي عزم.

ماذا ينتج عن حزن المبدعين؟

الغضب قد يصلح دافعًا، ويخلق بداخلنا قوة. الغيظ أيضًا قد ينتج عنه فعل ما، حتى الغيرة تكون أحيانًا سببًا للتألق والنجاح، ولكن ما الذي ينتج عن الحزن؟ قد لا يكون الحزن دافعًا لفعل قوي، ولكنه بلا شك دافع  للتأمل، وللغوص فى أعماق النفس والدنيا، هو محرك لطاقات الروح، الحزن قد لا يجعلك تتحرك جسمانيًا وتخطط وتنفذ، ولكنه يحرك المياه الراكدة فى روحك، وقد يدفعك للإبداع، فبليغ حمدي عندما طلّق وردة، دخل غرفته بالعود وخرج بلحن أغنيةالحب اللي كان“. وعندما مات عبد الحليم دخل غرفته أيضًا لساعات عديدة وخرج بكلمات وألحان:  “بنلف نلف نلف.. والسنين بتلف تلف.. والآلام بتزيد وجراح بتخف…”، إلى آخر الأغنية البديعة.

الآلات الموسيقية، الورق والأقلام، الفرشاة واللوحة، وغيرها من أدوات الفنون، للحزن عليها دلال، ولولا الحزن المكتوم المُؤلم ما نطقت هذه الأدوات، ما تحرر القلب من تلك الانقباضة، ما انتظمت دقاته وعادت للحياة، ولولا هذا الحزن البشري ما استمتعنا بأعمق وأصدق وأجمل الألحان والمَشاهِد والكلمات.

كان بيكاسو يعتقد أن الفن وليد الحزن، ومرّ في حياته بما يسمى “المرحلة الزرقاء”، وهي مرحلة رسم فيها أجمل لوحاته، معتمدًا على اللون الأزرق، جاءت هذه المرحلة بعد مروره بحزن شديد نتيجة مأساة انتهت بها حياة صديقه، كما أن حياة بيكاسو نفسه في تلك الفترة كانت مزيجًا بين الألم والمعاناة، وأصبح اللون الأزرق رمزًا لكل ما هو مأساوي وحزين.

كيف يؤثر الحزن في خلق الفن؟

وربما ما يجعل للحزن تأثير بديع على الفن هو الصدق، فالصدق والعمق والحقيقة الموجودة في مشاعر الحزن تظهر في الإبداع بقوة، وقال الأصمعي يومًا لأحد الأعراب: ما بال المراثي أشرف أشعاركم؟ قال: لأننا نقولها وقلوبنا محترقة. ومن هنا ظهر فن “االعدودة الموجود بشكل أساسي في الصعيد، عندما كان يموت الغالي والعزيز، تجلس نساء البلدة  يعبرن عن حزنهن “ويعددن” عليه “بعدودات”، أصبح منها ما هو تراث تتناقله الأحزان، وتردده النساء في المآتم، كما يرددن الأغاني التراثية الشعبية في ليالي العُرس والحِنّة.

العدودة” هى تنفيس عن انفعالات نفسية قوية، تنفيس أخرج إبداعًا تراكم عبر السنين ليصبح فنًا من نوعٍ خاص، كلماته وأشعاره تحتفي بالحزن، وتخلق لمشاعر الألم والفقد مساحة حتى لا يختنق بها صاحبها. ورغم أنه فن شفهي غير مخطوط، فإن به كل الصدق والإبداع والتأثير:

أخويا شقيقي وريحة أمي فيه، أمانة يا حصى القبر خليك حنين عليه، أمانة يا مغسل قبل ما تغسل العين، ميّل عليه وقوله أختك تروح لمين، بالله اعملوا قبر أخويا زين، أخويا كان غالي وكحل العين، بالله اعملو قبر أخويا مليح، شباك يكون عالي يخش منه الريح

وأخيرًا، الإبداع هو نافذة يطل منها الحزن دائمًا، ويتجلّي كعروس في أبهى حُلّتها، حتى نكاد ننسى عندما نراها أن كل هذا الجمال كان في الأصلِ حُزنًا.

المقالة السابقةالسلوك العدواني عند الأطفال والمراهقين: أسبابه وأنواعه وعلاجه
المقالة القادمةالعنف ضد الأطفال في مصر: أسبابه وآليات المؤسسات لمواجهته
مساحة حرة لمشاركات القراء

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا