حين استعدت جسدي

1350

علاقتي بجسدي في الطفولة

ما من كلمة سمعناها صغارًا إلا ورسمت طريق اتزاننا النفسي في الحياة، أو طريقًا آخر مشوهًا عبثيًا يشبه الحياة. ويبدو أني عبثت كثيرًا في صغري، حتى اكتشفت أن هناك حياة لم أعشها ولم أختبرها. وأخرى أجلتها بلا سبب مقنع. اكتشفت أني يمكنني أن أسير في الشارع دون أن أضم كتابًا إلى صدري، وحبذا لو انتصف جسدي فيخفي معالم صدري وبطني. كنت صغيرة جدًا على أن أختبر حمالة الصدر والكورسيه، أرادت أمي أن تخفي معالم جسدي، وأراد إخوتي الصبيان أن يخفوني أنا شخصيًا. طفولتي كانت صراعًا بين كمية الطعام وحجم الجسد، لا أتذكر منها سوى أني أريد أن آكل وألبس وكلاهما محرم.

كل المفاهيم تغيرت وتشوهت، شعرت بالخجل من مواقف غريبة، لا يمكنني أن آكل أمام الناس لأني بدينة، ماذا سيقولون؟ مما دفعني للأكل بعيدًا عن التوقيتات المعروفة مثل منتصف الليل، كنت أشتهي كل أنواع الطعام، مما زاد الأمر سوءًا وازداد وزني. وبالتالي زادت الممنوعات من كل الملابس التي تكشف شيئًا من قدمي أو ذراعي. ابنة تسعة أعوام لا يمكنها ركوب الدراجة أو لبس الشورت أو النزول لحمام السباحة أو حتى البحر في المصيف. وكان أخي الكبير يشرف على ملابسي بنفسه، ويتحكم في المسموح وغير المسموح.

أصبحت أكره جسدي وأعامله معاملة سيئة، وألبس جلبابًا فضفاضًا يخفي معالم جسدي، كي آكل مرتاحة البال. الآن لن يوبخني أحد. ومع ذلك لم يتوقف التنمر يومًا. “أهلاً باللحم الأبيض المتوسط، وصل الكاسح الماسح للسفرة، يا عِجلة، يا بقرة، وشك ملوش ملامح، أمك عصفورة دي أكيد قشروها من عليكي…”.

كل الكلام السخيف والمؤلم والجارح التصق بي، وتحول إلى كتل من الدهن لم أعد أستطيع السيطرة عليها. كنت أعد ثنيات بطني وألبس المشدات حتى تزول، ينكتم نفسي وأظل مؤرقة عصبية المزاج، لا أستطيع أن أخوض نقاشًا أو حوارًا معتدلاً مع أي إنسان، أعود للبيت أخلع المشد، أتنفس الصعداء، أعالج جسمي من أثر الالتهابات. كَبرت وكبُرت معي نظرتي المشوهة لجسدي، وفقدان الأمل في أن أكون فتاة جميلة ككل الفتيات حولي. لم أر أو أنظر لوجه إحداهن قط، كان تعريف الجمال عندي هو الوزن والنحت فقط.

بعد الزواج

تزوجت ولم أفهم كيف رضي بي أحدهم وأنا أحمل كل هذي الكتل فوق ظهري، وقلبي وبطني وفخذي! كيف لم يلاحظ هذا الجسم الذي ليس به ملامح وإنما كتلة لحم صماء! كنت أغلق الأنوار عند إقامة العلاقة الحميمية، لا أعرف إن كنت أهرب من نفسي أم من نظرته لي. كانت كلها أوهامًا في رأسي، وانتَصَرت في الحقيقة. أوهام جعلتني أسأله دائمًا إن كان يحب جسدي أم لا؟ إجاباته الملتوية لم تنقذني من نفسي، كنت أود أن أسمعها عالية: “نعم جسدك رائع، نعم أستمتع معك لأقصى درجة ممكنة”.

علمت وقتها أنه حان الآن دور العلاج النفسي. ذهبت للطبيب شبه إنسان، لا أحمل من صفات الإنس سوى الشكل الخارجي، أما من الداخل رماد لإنسانة احترقت، جوفاء، فارغة، استوحشت وانطوت. وددت لو اختفيت وانعزلت. طلب مني طبيبي أن أكتب خمس صفات جميلة بشكلي، لم أستطع، ضغط عليّ فانهرت وبكيت وصرخت به أني لا أحمل صفات جميلة إطلاقًا. أحضر مرآة ووضعها أمامي ليعلن عليّ الحرب. اكتشفت لأول مرة أني أتفادى النظر لنفسي في المرآة، فأنا أحمل جسدًا لا يستحق النظر إليه.

نظرت وبكيت كثيرًا، فاحمرت وجنتاي، وطلب مني أن أنظر مرة أخرى، نظرت وأخبرته بصوت متهدج أن كل ما أراه هو امرأة تكره نفسها لأقصى درجة، قال لي: ماذا عن احمرار وجنتيك وبشرتك البيضاء وعينيك العسليتين؟! أخبرته ببراءة الأطفال: “أتُحتسَبُ هذه الصفات؟!” رد مندهشًا: أليست معيارًا من معايير الجمال؟

كتبتُ بصعوبة خمس صفات، وقفت أمام المرآة أخبر نفسي بها بصوت عالٍ علِّي أسمعني.. واستمر الأمر طويلاً. سنوات عدة من الصراخ أمام المرآة، حتى استيقظت يومًا ورأيتني، وجدت شابة بيضاء جميلة أمام المرآة، فهدأتُ بعد أن انهار زواجي تمامًا وانفصلت.

المرحلة الأخيرة.. الدعم

تزوجت مرة أخرى. وكنت خائفة وأحمل بين ضلوعي كل عيوب جسمي، أعرفها وأحفظها عن ظهر قلب. ولكن في الحقيقة لست أدري كيف تحولت نفس العيوب إلى مميزات من وجهة نظر زوجي الثاني. يخبرني عن التفاف عودي، فأتساءل ألا تراها كُتَلاً؟ ثم يخبرني عن بياض جلدي، فأتساءل ألا ترى الترهلات؟ وصفه لوجهي جعلني أبغض مساحيق التجميل، لم أعد أضعها، أصبحت أحب وجهي وأراه كما يراني هو بعينيه. الكاميرا التي كنت أخاف منها أصبحت فجأة أحبها، لأنه أخبرني بصدق أني أزيد الأماكن جمالاً. ولأني أحبه صدقته، وإن كان الواقع مختلفًا.

كذبت العالم كله وصدقته، لأننا نرى صورتنا الحقيقية في أعين من نحب، لا في أعين من رأوا أقبح ما فينا وسلطوا عليه الضوء، حتى تشوهنا وانكسرنا. كل المعايير التي وضعها لنا الآخرون ضرب من العبث، القد الممشوق، الوسط النحيف، البطن المسطحة، المؤخرة المستديرة. لذا فهذه معاييري، وقد رآها أحدهم بعين قلبه وبصره. لذا لن أكون مسخًا تؤرقني كم الكالوري التي دخلت جسمي اليوم، وكيف أتخلص من شحمي الزائد. سأكون كيفما أكون.. فكلنا جميلات جدًا.

المقالة السابقةالتصالح مع الجسد: أهم صعوباته وخطوات تحقيقه
المقالة القادمةمشكلات العلاقة الحميمة وعلاقتها بصورة الجسد
كاتبات

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا