الحب في زمن الكورونا: صور الفرج والرحمة من قلب الكارثة

1156

بينما لا تفعل شيئًا يُمكن ملاحظته، أكثر من المضي قدمًا، نُهرول للحاق بها، كمن لدغه عقرب أصابه جنون السرعة. الحياة.. تلك المسكونة بالثورة والفتور في آن واحد، التي أُصيب شغفها، بمرور الأيام والليالي، بطلق ناري أهوج، سموه مجازًا الملل. ذلك الملل الذي اقتادنا في دوائر، تبدأ منه، بينما لا تنتهي لشييء ولا حتى إليه، فصرنا كقطيع من الموتى الأحياء أو “الزومبيز” بتعبير أكثر تداولاً، برؤوس مدفونة في شاشات هواتفنا، نمر بالأشياء مرور الزاهد، بينما في أعماقنا لا نعرف شيئًا عن رضا الزهد، نمل الأحداث، حتى قبل وقوعها، نواجهها بفتور، لا لشيء سوى ليقيننا أنها تعرف مواقعها جيدًا من دوائر الملل المفرغة.

قبل أن تجثم على أنفاسنا، تلك الجائحة البغيضة التي أُطلق عليها فيروس كورونا المستجد، هل تذكر متى آخر مرة، اشتعَلت فيها حماسًا لفكرة، وسيطرت عليك تمامًا، حتى ظننت أنها سبيلك الأوحد لبلوغ تلك النشوة المبتغاة بتحقيقها وقتل الملل ؟ يجيبني المفكر الفذ أحمد أمين، من كتاب السيرة الذاتية خاصته، الذي يحمل اسم “حياتي”:

التعود يلتهم الأشياء، يتكرر ما نراه فنستجيب له بشكل تلقائي، كأننا لا نراه، لا تستوقفنا التفاصيل المعتادة كما استوقفتنا في المرة الأولى، نمضي وتمضي بنا الحياة كأنها لا شيء.

رَحم الكارثة

الكوارث على اختلاف أشكالها، يُحمّلها الله، العادل بشيء من رحمته، فتأتي ريحها السوداء القاتمة، مُفسحة المجال لأمطار هادرة، تصفو بها الأجواء، بعد طول اضطراب، وكذلك كانت الحال مع كورونا. في الوقت الذي، شق البلاء طريقه إلينا، وتمكَّن اليأس سريعًا من كل شيء، حتى صار كلمات يتفوّه بها رئيس وزراء، بريطانيا “بوريس جونسون” مرددًا “استعدوا لوداع أحبائكم”، كان علماء وباحثون ببريطانيا يعملون على قدم وساق، في سبيل إيجاد طريقة لتعقب تفشي الفيروس عبر شفرته الوراثية، والتي تعتبر مخططًا أوليًا تتشكل في ضوئه بنية الفيروس، من خلال إجراء تحليل للعينات التي جُمعت من المرضى، وبيان ما إذا كانت تتحول إلى سلالات جديدة.

هذا المشروع الذي جاء نتيجة تعاون بين خدمة الصحة الوطنية في بريطانيا، ووكالات الصحة العامة، ومعهد “ويلكوم سانغر”، الذي دعمته الحكومة البريطانية بقيمة 20 مليون جنيه إسترليني.

من يدري ربما أثبتت الأيام القادمة أنه إحدى نفحات الرحمة، التي أنجبتها رحم الكارثة، جنبًا إلى جنب مع آلام المرض والفقد والقيد ويأس المسؤولين وقلة حيلتهم؟! وما أقصده هنا ليس الحديث عن بريطانيا وحدها، لكنه مثال ينسحب على العالم بأسره، شماله وجنوبه، شرقه وغربه.

أعمدة الحياة

حينما كنت طفلة صغيرة، كنت كثيرًا ما أفكر لماذا تجد الأم غضاضة في تسمية الأشياء التي تريدها ببساطة، حينما يوجَّه لها تساؤل مباغت من أحد أبنائها: أجيب لك إيه في عيد الأم يا ماما؟ وحينما صرت أكثر وعيًا، ظننت أن للأمر علاقة بالخجل الإنساني العادي، إلا أنني حينما صرت أمًا، أدركت كل ما جهلته سلفًا، فالفطرة تتحكم في الأم منذ اللحظة الأولى التي تلمس فيها جلد وليدها، تأمرها بإيثاره على نفسها، وعلى كل شيء. لتبدو كلمات كـ”أنت هديتي” و”عاوزاكم بخير” شديدة الصدق، رغم اعتبارها كلمات مجاملة، أو استهلال لقائمة مطولة من الطلبات التي لم تجد حيزًا بعد في عقل أمومي.

خلال أزمة كورونا الآنية، تضاعفت المهام على الأمهات في شتى البلاد، جميعهن يرهقهن الفكر حتى الصباح، تشرق الشمس بينما تنهضن خلف مهامهن اليومية دون كلل، تخفين في حافظة أجسادهن الحنونة خوفًا وهلعًا واضطرابًا، قادرًا على ضرب العالم كله بزلزال مهول. تحرصن على تنوع صنوف الطعام وثرائها بكل ما يشد من أزر المناعة والكعكات للتسلية، مع ضبط برامج منظبطة للدراسة واللعب لئلا يعرف الملل طريقه خلسة إليهم، تُطهرن الملابس والأسطح وتتكيفن مع تقلبات الجو وعثراته، بصبر ودأب.

كذلك الحال مع الآباء، الذين جاءت الأزمة لتحول مخاوفهم من المستقبل المتوَعِّد إلى واقع شديد الصعوبة، يتفرسون وجهه القبيح كل صباح، في ظل فاتورة مستحقة الدفع مقدمًا لمستلزمات الحياة اليومية، رغم تكالب وفزع مجتمعيين من نفاد السلع وفرض حظر تجول لتحجيم التجمعات.

تأكد أنه بينما أنت مهموم بفعل الملل والزهق المنزلي، في ظل الحجر الطوعي، أن أباك يضع رأسه على الوسادة ويتركه لتلتهمه الأفكار السوداوية، بينما يحاول جاهدًا تدبير أمور البيت، ودفع الفواتير، دون أن يأتي ذلك عبر يده الممدودة لصديق أو أخ يقرضه بعض المال. فالشيء الذي لا شك فيه أن الأم والأب هما أعمدة الحياة، وقد جاءت هذه الأزمة لتثبت ذلك بأدلة مرئية.

مصنع الأمان

ليس إلا في ليل حالك السواد، تُرى النجوم في أبهى حُلة لها، كأن تسوّد الحياة في عين المُبلتَى، وتضيق به سُبلها فيُنكس هِمته، مرددًا باستسلام: “انتهت حلول الأرض، الآن الأمر متروك للسماء”، بينما يضع الوعي بأهمية النظافة الشخصية في ربوع الأرض، حجرًا جديدًا، جنبًا إلى جنب مع حَجر ضرورة تبني نظام غذائي صحي، داعم للمناعة، يحدُهما آخر للإقلاع عن التدخين. وغيرها من السلوكيات المحمودة  والوعي الاستثائي، الذي لم تكن أعتى وكالات إدارة الوعي والرسائل الموجهة، قادرة على خلقه في ظل ظروف عادية.

الحقيقة أنني منذ بداية الأزمة، في كل مرة أهم فيها للبحث فيما وراء معلومة أو تصريح، تظهر أمامي على الشاشة، الفنانة مي عز الدين في شخصية “نسمة” من فيلم “أيظن”، تلك الفتاة، المكتسبة لوزن زائد، تردد بهمة “وعي ومناعة.. مناعة ووعي” بدلاً من جملتها “دايت ورياضة.. رياضة ودايت”.

فالوعي بمخاطر ما يدور حولك واتخاذ التدابير الحكيمة للتعامل معه، واستبيان المعلومات الصحيحة من الخاطئة، بالإضافة إلى التحلي بمناعة قوية، أساسها الطعام الصحي والمداومة على ممارسة الرياضة، يمثلان من وجهة نظري المتواضعة مصنع الأمان خلال أزمتنا الحالية وفي كل وقت.

تحدي الخير

لا أدري هل هو لسوء حظي أم لحسنه، أنني شخص تُرهقه معاناة الآخرين، وإن لم أكن أعرفهم شخصيًا، وغالبًا ما يجد العقلانيون ممن يدورون في فلكي أن هذا كله محض سخافة أو “أفورة” وربما حتى ادِّعاء. لذلك، دائمًا ما يشغلني أمر المنطقة الوسطى من الأمر، هؤلاء الأشخاص الذين يرق قلوبهم لبسطاء الحال وأوضاعهم الصعبة، فيدعون لهم أو يُقدمون لهم يد العون، ثم يمضون في حيواتهم بيقين أنهم فعلوا ما وجب، وأن يد الله ستتكفل بكل شيء وتجد طريقة لسلوان هؤلاء ووضع نهاية لمعاناتهم.

خلال أزمة كورونا أرهقتني مسألة أحوال الفقراء وبسطاء الحال، ممن لا يملكون سوى قوت يومهم، وبدأت في الدخول لحالة من الاكتئاب، لم أفكر خلالها في ماهية الحلول، وما الذي يمكن تقديمه لنجدتهم، لكن المدشنين لهاشتاج “تحدي الخير” من أهل الخير والشخصيات العامة، فعلوا ذلك وبفاعلية كبيرة، بعد أن نجحوا في تخفيف العبء عن عدد لا بأس به من الأسر المتضررة نتيجة الإقامة الطوعية درءًا لانتشار “كورونا”، وهو عمل يمكن وصفه بأنه مسؤول وواعٍ، فالمسؤولية الاجتماعية التي تدفع الفرد نحو القيام بدوره عن طريق تقديم يد العون لغيره من أفراد المجتمع أجدى مليون بالمئة من الاكتفاء بالدعاء والبكاء.

إحنا في ضهرك

يقول جبران خليل جبران:

شيئان يغيران نظرتك للحياة، المرض والغربة

هذه المقولة الحاسمة، أخذت طريقها إلى التطبيق العملي، خلال حرب كوكبنا الآنية مع “كورونا”، ففي ظل توالي قرارات الدول بتعليق رحلاتها ومنع السفر إليها، وجد عدد كبير من الناس أنفسهم في بلاد غير بلادهم، بعيدًا عن أحبائهم، يواجهون مصيرًا لم تخبرهم مضيفة الطائرة، بينما هم على متنها أنهم بصدد مواجهته.

هنا قام مجموعة من المصريين والعرب على واحدة من أكثر صفحات السفر رواجًا على مستوى العالم العربي عبر فيسبوك، وهي travel secrets بتدشين حملة “إحنا في ضهرك”، لمد يد العون لمن وجدوا أنفسهم عالقين في الغربة، بلا حسابات مضمونة، تكفل لهم إقامة، أو وسيلة نقل كريمة، بعد أن داهمت كورونا السعادة واغتالتها في كل موطن.

مدشنو الهاشتاج منعوا عن هؤلاء، من ضحايا الصدفة تعاسات، على كل شكل ولون، كانت في طريقها إليهم عبر توقعاتهم، وأعطوا مثالاً رائعاً يبعث على الأمان والطمأنينة ويجدد الثقة مرة أخرى بالإنسانية.

خليك بالبيت

حينما تقذفك إحدى عواصف الحياة المباغتة، وتجد نفسك وجهًا لوجه مع الموت، ستدرك أشياء، ما كانت لتخطر في بالك أبدًا، ستفكر في الحياة بحد ذاتها، ففي الخط الفاصل ما بين الموت والحياة، ستجدها صارت أكثر قيمة، وستتمنى لو أن لديك فرصة لتطيل عمرها ولو قليلاً.

تلك المشاعر بأننا في القارب ذاته، وأن نجاة الفرد كل على حدة، هي نجاة للجميع، كانت وليدة الشعور بالخطر، ولعل تلك المشاعر كانت الدافع وراء إعلان شركات الاتصالات على اختلافها عن منح دقائق مجانية وميجابيتس، لمساعدة الطلاب في تحدي الدراسة عن بعد، استجابة للظروف الحالية. وغيرها من الخدمات التوعوية والثقافية مثل ما قامت به بعض منصات النشر الإلكترونية، بإتاحة إنتاجها الأدبي مجانًا لفترة، لتحفيز الملازمين لمنازلهم على القراءة وإنفاق الوقت فيما يُفيد ومواجهة الملل وغيرها من المنابر التي رفعت شعار “خليك بالبيت”، تشجيعًا للناس على البُعد عن التجمعات.

أنت لست وحدك

رغم كل ما خالجني من مشاعر حزينة وسلبية وما زال، لا سيما والعالم يردد على مسامعي بين الفينة والأخرى أن أمي وأبي وجدي وجدتي وكل من استوطنوا قلبي، ممن تمتطي أعمارهم جوادًا يسبق جواد عمري بسنوات طويلة، يجاورهم صغيري وابنة أختي وابن صديقتي وكل ذوات الأنامل الدقيقة، ممن يُشرق المستقبل واعدًا عبر ابتسامة ثغورهم، هم أول المستهدفين من كورونا، ذلك كله في ظل وفيات وأعداد مصابين سجلت مئات الآلاف، حتى لحظة كتابة المقال.

تلك الرغبة الملحة في ضم هؤلاء جميعًا في مستودع كبير، تقوم وحدك بتطهيره ومراقبة مداخله جيدًا، بينما يعيدك عجزك المحتَرق إلى مقعدك ثانية، ليُخبرك أنه ربما في مجرد زيارتك، شر كبير، قادم إليهم عبرك. إلا أنني ممتنة لملايين النهايات الإلكترونية التي جمعتني بكل هؤلاء، من قاطني “جروبات”، العائلة والجيران وزملاء العمل، والعدد اللا نهائي من الرسائل الصوتية المجتَهدة، التي يُخبرني أصحابها بصوت متهدج بأن أفعل أو ألا أفعل، كي أقي نفسي وأهلى شر ما لم يعد “مستخبي” بعد الآن، فجميعهم أخبروني برسالة طمأنينة مفادها “أنتِ لست وحدك”.

الأطباء والعلماء والمتخصصون في علم الأدوية، المهاجرون بالخارج، ومن يقفون معنا بالداخل خلف حائط الصد، يُحاولون ويُحاولون.. يُخطئون مرة ويصيبون مرات، بينما يحركهم يقين بأن النجاة اختيار وليست مجرد صدفة. إليهم وإلى نفسي أردد بابتسامة المبصر بالفرج القريب، كلمات أبو العتاهية:

لعل ما تخشاه ليس بكائن :: لعل ما ترجوه سوف يكون

اقرأ أيضًا: هل يعاقبنا الله: أسئلة طفولية في زمن الكورونا

في العزل المنزلي: 11 فيلمًا للقضاء على الملل

المقالة السابقةفي ممر الفئران: هل حانت نهاية العالم ؟
المقالة القادمةإزاي نعرف الأطفال على كورونا: أنشطة ومعلومات
كاتبة وصحفية مصرية

1 تعليق

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا