لبن الأم وسحر الرضاعة الطبيعية

1502

كانت صغيرتي تمسك بأصابع البطاطس المحمرة التي تعشقها، كانت جائعة جدًا وأنا أعلم ذلك، لكنني أردت اختبارها بطريقة خبيثة، فأشرت لها ناحية صدري وسألتها “مم؟”، فجأة تركت طعامها المفضل يسقط فوق الطاولة، ونسيت جوعها وقفزت إلى حضني بنهم، طلبًا لغذائها الأثير اللبن.. لبن الأم.. الرضاعة الطبيعية.

تجربتي مع الفطام المؤقت

تبلغ “سلمى” من العمر الآن عامًا وثمانية أشهر، قبل أن تتم عامها الأول تعرضتُ لوعكة صحية استلزمت فطامها لحمايتها من العدوى، وقتها كان الموقف يعتصر قلبي، فطام مفاجئ من ناحية وحالة صحية متردية من ناحية أخرى، لكن حاول الجميع أن يقنعني أنه لا بأس، كنت أبكي بحرقة أنني لن أتمكن من استكمال رضاعة ابنتي لعامين كاملين، وكان هذا يثير استغراب من حولي، وقتها قالت لي عمتي “هترتاتحي كتير، على الأقل هتبطلي تقومي بالليل كل شوية”، أما صديقتي المقربة فخففت عني قائلة “المهم إنك رضعتيها سنة كاملة، والأهم أول ست شهور”، حتى طبيبي أخبرني أنه لا بأس بالفطام في هذه السن، لكنني وقتها صممت على استكمال الرضاعة عقب انقضاء فترة العلاج، وعاودت إرضاع “سلمى” من جديد بعد انقطاع 15 يومًا مرت عليَّ كالجحيم.

لبن الأم حياة

في البداية أحبطتني صغيرتي، كانت “سلمى” قد نسيت كيفية الرضاعة، حاولت لأكثر من مرة لكنها لم تستجب، حتى كدت أفقد الأمل، لكنها في المرة الأخيرة وأنا أحاول بيأس أن ألقمها صدري التقطته فجأة وراحت ترضع بنهم شديد، وأغمضت عينيها لتغوص في عالمها الذي يثري قلبي، تمتص غذاءها بنهم كأن أحدهم عاد من الصحراء لتوه. تمسكت بي ورفضت أن تتركني، وشعرت أن الله يحبني جدًا في هذه اللحظة. ما زال لديَّ وقت للاستمتاع بصغيرتي.

مرت الأشهر وقاربت على الشهر التاسع بعد العام، تبقى لي ثلاثة أشهر فقط، يجب أن أبدأ خلالها الفطام التدريجي، لا أدري كيف سأفعل هذا، في الواقع من يتغذى في وقت الرضاعة أنا، لا هي.. أنا من أغرق في عالم من الرضا يبدأ بتلك النظرة في عينيها، نظرة ارتياح عميقة ورضا تام عن الكون بكل تفاصيله، طمأنينة مذهلة أمنحها لها فتعيدها لي مضاعفة، تلك التنهيدة الرقيقة من صدرها تريح قلبي وتشعرني أنه لا بأس. كيف سأنقطع عن هذا الفعل الجليل؟! إنني أسعد حين تطالبني بإرضاعها، تفضل لبن أمها على أي طعام في الدنيا، إنها طفلة رائعة تجعلني رائعة في المقابل، يمكننا أن نصبح عظماء فجأة حين نمسك بين أيدينا رضع بلا حول ولا قوة، يستسلمون للنوم بمجرد أن يتذوقوا اللبن السحري، لبن قادر على تسكين الألم والخوف والقلق، لبن يحملهم إلى عالم النوم وسط الملائكة تاركًا على أفواههم تلك الابتسامة السعيدة الراضية.

اقرئي أيضًا: ماذا تفعلين أثناء الرضاعة؟

ذكريات الرضاعة السعيدة

حين رزقني الله بمولودي الأول “يونس” كنت حريصة على إرضاعه في الساعات الأولى، وكنت أنوي أن أكمل حقه في الرضاعة لعامين، لكن الظروف الصحية لكلينا لم تسمح لنا بالمواصلة لأكثر من عام وخمسة أشهر، وعلى الرغم من أن ذلك هو عمر الفطام الطبيعي في العادة، فإنني ظللت محملة بذنب يوجع قلبي، أذكر كيف قمت بفطامه تدريجيًا مع بداية أيام العيد عام 2016. لم يعانِ ولم يبك، فقد كنت حريصة على جعل الأمر مقبولاً بلا تعذيب أو معاناة، فطام تدريجي رقيق وحاسم أنهى علاقته بصدر أمه خلال تسعة أيام بالتمام والكمال، لكن الحقيقة أن من بكى وتعذب كان أنا.

يقولون إن الفطام هو أول شعور بالقهر يشعر به المرء في حياته، لكنني أقول إن الفطام واحد من مشاعر الفقد التي تمر بها الأم في حياتها، فقد لتلك الحالة العظيمة التي تجمعني وصغيري، مهما تخللها من ألم أو عض بالأسنان حديثة الظهور، أو التهاب لأي سبب كان. ينتهي هذا كله فجأة حين يرتخي فم الصغير برضا بعد أن يغوص في عالم النوم السحري، هانئًا بوجبته المشبعة الرائعة، وجبة قادمة من موضع بجوار قلب أمه التي تحبه كثيرًا.

اقرئي أيضًا: لماذا تخاف الأمهات من الجنس مع الرضاعة؟

الرضاعة عامين كاملين

لهذا قررت أن أكمل عامين كاملين من الرضاعة لـ”سلمى”، حتى أتخلص من ذنبي القديم، والذي لم يكن بيدي، لكن الوقت قد حان، وأنا خائفة من تلك اللحظة، أعلم أنني لن أستيقظ بالمعدل الحالي ليلاً، ربما ينام كلانا نومًا هانئًا، لن تبكي صغيرتي إذا ما غبت عنها لساعات في عملي طلبًا للرضاعة، سيكون لديها طعام يغنيها، في الواقع سوف تتحسن علاقة ابنتي مع الطعام، لأن حليبي يفسد شهيتها ويجعلها تفضله على ما سواه، لكن هذا كله لا يغريني بالبدء في الفطام، الذي بات محتمًا عليَّ لا محالة.. كيف سأفعلها يا ربي؟!

أنا خائفة جدًا، لكنني الآن أعلم أن الحياة مراحل، وأن لكل مرحلة جمالها وسعادتها، لذا سأحاول أن أتماسك.

نصائح لرضاعة طبيعية ناجحة

أقرأ كثيرًا عن معاناة أمهات بلا حصر مع الرضاعة، حتى أن عبر أحد الاستطلاعات عن أي مراحل الأمومة أصعب الحمل أم الولادة أم الرضاعة اختارت الأغلبية الأخيرة، ما جعلني أرغب في أن أحدث الجميع عن تجربتي وعن عدة حقائق تغيب عن الكثيرات.

– الرضاعة الطبيعية أمر عظيم جدًا، لكنها ليست فعلاً فطريًا كما يتصور البعض، في الواقع ظللت لأكثر من 45 يومًا أرضع ابني الأول بطريقة خاطئة، حتى ساعدتني صديقة عزيزة على تعديل وضعيته، وعلمتني كيف يمكن أن أرضع صغيري بطريقة صحيحة غير مؤلمة له أو لي.

– الرضاعة الطبيعية يجب أن تبدأ من لحظة الولادة، سواء كانت ولادتك طبيعية أو قيصرية، مهما بلغت درجة معاناتك احرصي على أن تبدئيها في وقت مبكر جدًا، اللحظات الأولى تتحكم في شكل علاقة الصغير بلبن أمه لعامين تاليين.

– لا يوجد لبن خفيف كما يدعي البعض، ولكن هناك طفل لم يمكث وقتًا كافيًا ليرضع من أمه. يختلف لبن الأم في اللون والتركيز خلال وقت الرضاعة، فيبدأ خفيفًا ثم يصل إلى أعلى تركيز في الدسم والمكونات بنهاية الرضاعة، ليس على الأم سوى المحاولة والاستمرار.

– عانيت مع طفلتي الثانية من تشققات الحلمة والآلام المبرحة، حتى ظننت أن الألم الرهيب سيكون أبديًا، لكنني مع الوقت والعلاجات واستشارة الطبيب والتعلق الصحيح للصغيرة بصدري عالجت الأمر تمامًا، وصار كل شيء على ما يرام.

– أرفض تمامًا مبدأ وضع الصبار والشطة على الصدر من أجل الفطام المفاجئ، كيف يمكن لموضع هو مصدر الأمان والراحة أن يصير مصدرًا للخوف والانزعاج؟!

– الرضاعة ليست وراثية، فإن لم ترضعك أمك يمكنك إرضاع صغيرك بصورة طبيعية، إن لم ترضعي طفلك الأول طبيعيًا ما زال بإمكانك الفرصة لإرضاع الطفل الثاني بصورة طبيعية. الرضاعة تسكن الخوف وتخفف ألم التطعيم ومعظم الآلام. الرضاعة ليست مصدرًا للغذاء فقط، في الواقع هي مصدر للحب والحياة.

اقرئي أيضًا: تجارب فطام الطفل من الرضاعة الصناعية، جدول الرضاعة الصناعية

المقالة السابقةمن حمى التخطيط إلى عيش اليوم بيومه
المقالة القادمةكيف تتعاملين مع الإساءات في العلاقات
كاتبة وصحفية مصرية

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا