متعافية من الاكتئاب

3279

عن الاكتئاب سنتحدث

أرادونا أن نكتب عن أهم تجاربنا، ومنذ تلك اللحظة تنهشني الأفكار في محاولة للتدقيق، أي من تجاربي يستحق المشاركة، وأيها لا يستحب به ذلك على الإطلاق؟ بحسبة صغيرة علمت أن لا مفر أن يكون الكلام شخصيًا بحتًا. وعليه حاولت للمرة الثانية أن تكون تجربتي تبعث بالقارئين شيئًا من الأمل، وهذا على قانون “فليقل خيرًا أو ليصمت”. ولكن للأمانة وجدت أن لكل انفراجة ضيقًا محدقًا يسبقها مباشرة. وإن كنت سأسرد قصة الاكتئاب بأمانة، فعليَّ أن أحكي مراحلها كافة. فنحن ناضجون بشكل كافٍ، لنعلم أن ليس للقصص الخيالية ذات البدايات والنهايات السعيدة مكان بيننا.

أول مرة أعرف مرضي

عن أول مرة أعلم يقينًا كوني أعاني من الاكتئاب المرضي، ينهشني منذ سنوات عدة، ويولد بداخلي غضبًا محدقًا نحو ذاتي، ونحو كل ما يمس هذا الكيان. لن يمكنني سرد القصة من الجذور، ولكن دومًا ما كان هنالك نقطة تصلح لتكون بداية، وقد كانت البداية في قراءتي لانفجارات نفسية صغيرة، تنذر بانفجار مدوٍّ عن قريب.

أول انفجار

كان أول انفجار مورط ومفاجئ عندما فقدت رباطة جأشي، وتخليت عن سلاح ابتسامتي وسخريتي المغوار، ومن ثم وقوعي في نوبة بكاء مضنٍ غير مبررة مطلقًا للمحيطين، إلا لكوني أشعر بالحزن والتقصير نحو ذاتي، بشكل فج لا يمكن إنكاره أو تداركه. كان حظي سعيدًا بأن حدث هذا أمام إحدى صديقاتي الواعيات، لتهدئ من روعي بلا تسويف أو كلمات دينية تدعوني للصبر بالمطلق، ولكنها كانت أكثر حكمة، ونصحتني بمراجعة طبيب مختص. فقد كان جلي لها أنني أعاني اكتئابًا ضاريًا.

حينها ارتجفت حقًا، فلم يعد الأمر منوطًا برأيي بذاتي، بل صعد الأمر أخيرًا إلى السطح، وصار جليًا للملاحظة. إنه الاكتئاب يا صغيرتي. كنت أظن أنني قادرة على إخفائه، حتى أجد لنفسي مخرجًا ما، معتمدة على ذكائي وقراءاتي الفردية فيما يخص الموضوع، ولكن الصدمة جاءتني قوية حقًا عندما علمت أن جسدي لم يعد يحتمل، ولم يعد يستطيع البقاء في صفِّي بعد الآن، وصار يرسل رسالات استغاثة إلى العالم الخارجي بغية الخلاص، بصورة انهيارات عصبية على أمور تافهة، أو بأوجاع متفرقة في نواحي جسدي، ليس لها أي مبرر عضوي، سوى كوني حزينة. حينها فقط علمت أنها الثورة، وأن من الحكمة أن أحترم الموقف، وأتنحى عن القيادة قليلاً، بعد أن أسلم السلطة لمن أثق به. وقد كانت المعضلة حينها في أن منحي الثقة لشخص لا أعرفه لهو أمر في غاية الخيالية.

فشل فكرة الطبيب النفسي

ذهبت إلى الطبيب النفسي الذي أوصتني به صديقتي، وأنا كلي أمل، أو بالأصح بفارغ صبر، لأن يكون لديه الإجابة التي أحتاجها، ولكن للأسف، وجدته شخصًا لا تتمثل به أي صفات الطبيب النفسي فقد كان يتابع ردي على أسئلته، بينما كان يتابع شاشة هاتفه المحمول بلا غضاضة، ليتلقى ردودي دون التفات. أنهيت جلساتي معه فورما شخصني مريضة الاكتئاب وكتابته المستهترة لعلاج، أصابني فيما بعد بحساسية مفرطة بكامل ظهري. ليتركني حزينة. أعاني الحساسية، وقلبي منكسر من باب نجاه قد أوصد بوجهي، لأعود من جديد لمحاولاتي الفردية للنجاة.

ملاكي الحارس

حتى واتاني الانفجار الثاني، والثالث والرابع، على أمور أقل بساطة، حتى ساقتني قدماي لطبيبتي وملاكي الحارس والتي واصلت معها رحلة بحثي عن ذاتي لسنتين متتاليتين، أو أكثر فيما بعد. وقد كانت -بحق- خير مرشد، وأحن وأذكى يد قوية تسند وتجبر. ذهبت لها بعد أن أوصاني بها صديق مقرب، لأذهب إليها محملة بخيبات أملي السابقة، من تجربتي الخاصة، وتجربة من أعرفهم مع الأطباء النفسيين. تحررت من صمتي بصعوبة أمامها، لأنهال عليها بكلمات مسممة عن توقعاتي من جلستنا هذه، لأخبرها تباعًا بتجربتي مع الطبيب غير المكترث. أتذكر جيدًا كوني انهرت في البكاء بلا بد مني، وبلا أمل في الخلاص من حزني المطبق، ومن شعوري بالطرد خارج ملكوت الإله، حيث الوحشة تنهشني ولا يتلطف عليَّ بوجوده، مما يزيد من شعور الغضب داخلي.

ابتسم الحظ أخيرًا بانفراجة النور الأهم بحياتي، والتي تسلطت جابرة لتهشمات قلبي فأتتني السكينة بشكل مفاجئ غير متوقع بكلماتها المنطقية التي نطقت بها، بلا أدنى وعود بغد أفضل، ولكن بصدق النية في مساعدتي ومحاولة إيجاد السبيل، وبوعد صادق كوننا سنحاول ولن نمل المحاولة، وما عليَّ سوى التحلي بالصبر والصدق، بينما نسير الطريق الطويل يدًا بيد. حدثتني بمنطق أحبه وأؤمن به، وهو أن نجرب ونفشل خير من أن لا نجرب من الأساس خوفًا من الفشل.

نستحق أن نحيا بلا كل هذا الألم

لم تكن الرحلة هينة أبدًا، فقد كانت مرهقة بحق، يتخللها انهيارات قوية، قرأتها انا على أنها فشل وخلل بالعملية، بينما أوضحت هي بعلمها كون هذا طبيعي ومتوقع، فالتجارب والقدرات الفردية متفاوتة، وتمسكت على طول الطريق بمديحها وتشجيعها لكوني صادقة بحق في المحاولة ومُصرة على الخلاص. وقد كان لكل كلمة تشجيع فعل السحر لجعلي أستمر بحبس أنفاسي لأغوص أعمق وأعمق بداخلي، محاولة اكتشاف مكان الخلل وتضميده شيئًا فشيئًا. أتذكر الآن رحلتنا الطويلة معًا تحت شعار ما قاله تميم البرغوثى‌ “فًارفق بِنَفسكَ ساعةً إني أراكَ وَهَنْتْ”. أتذكرني جيدًا وأشفق لحالي بعمق وأسى، وأفرح لكون هذه الليالي قد ولَّت، وحتى الآن أنصح كل من أرى به لمسة حزن تشبهني قديمًا بالإقدام على تجربة مراجعة طبيب نفسي، فجميعنا نستحق أن نحيا بلا كل هذا الألم.

رحلة التعافي

أما الآن، فلتسمحوا لي أن أسجل نفسي من المتعافيات من الاكتئاب، فبينما لفظ التعافي قد اقترن بمدمني الهيروين والكوكايين، أرى أنا التعافي في ذاته ما هو إلا آلية وحرب دائمة، يخوضها المرء مع ذاته، ورحلة مستمرة من مراقبة الأفكار ومراجعة النفس، للتمسك بأكبر قدر ممكن من السواء النفسي.

الآن وبينما أمارس واقعي اليومي متمسكة بهذا التعافي الغالي، يظل بقلبي خوف كبير من احتمالية العودة إلى هذه الهوة السحيقة، فالواقع يقول إن الاحتمالات لطالما كانت متاحة، وأن الحياة بلا ضمانات. فبينما أكتب تلك الكلمات أتذكر هذه الهوه جيدًا، وتتلاحق بذهني اللقطات والصور الحزينة، فأتذكرني بداخلها وأشفق من جديد لحالي، وتضطرب نبضات قلبي كوني ليس بيدي أنا الأخرى أي حلول قاطعة لأنقذ نفسي في حال حدث هذا مجددًا، ولكن ستظل كل أمنيتي ودعائي إلى الله حتى يوم مماتي إنه فى حال كتب لي السقوط مجددًا -وأتمنى من كل قلبي أن لا يكون هذا قدري- بأن يعطيني حينها الله القدرة والقوة، لأخرج من جديد، فأنا بالحقيقة أريد أن أعيش، وسأظل ألتمس من الله أن يساعدني في ذلك حتى آخر نفس لدى.

المقالة السابقةبومة الليل : ما سبب النشاط في الليل، صفات محبي الليل
المقالة القادمةشجاعة عدم الكمال

2 تعليقات

  1. مبدئيا حمدالله على سلامتك، سعيدة انك تعافيتي ومتأسفة انك اضطريتي تمري بتجربة مماثلة.
    أكون ممتنة إذا ساعدتيني بتفاصيل الدكتورة.
    تمنياتي بالشفاء الدائم والقوة🙏

  2. الحمدلله علي سلامتك ممكن تبعثيلي كيف شوفيتي كيف كانت اساليب العلاج ساعديني

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا