العمر مجرد رقم: النضج وأنواعه وأثره على حياتنا

2518

تمر الأيام وتجر خلفها السنين، وتومض خانة العمر، التي تحتويها الهوية الشخصية معلنة عن بدء عام جديد في حياتك. وأكثر ما يدفع الناس للتساؤل بشأنه هو عمرك، كي يطلقون العنان لخيالهم حول الهيئة التي أنت عليها، من خلال انتمائك لتلك الفئة العمرية. فهل فكرت يومًا في حقيقة الرقم الذي تتضمنه بطاقات الهوية الشخصية، وما إذا كان ذلك الرقم يعكس بحال من الأحوال ما بلغه الأشخاص من نضج وخبرة؟

الفرق بين المعتقدات ووجهات النظر

الفارق الجوهري بين المعتقدات ووجهات النظر، أن الأولى تكون أكثر رسوخًا وقدرة على الثبات ومواجهة الزمن أكثر من الثانية، وبالتالي إن حدث وتغيرت إحدى معتقداتك الراسخة في الحياة، تأكد أن السبب يعود لشيء يفوق النضج، فالنضج وكثرة التجارب وأعداد المارين عبر حياتك، ومقدار ما تعرضت له من معرفة وبحث وتقصي، من شأنها جميعًا أن تغير وجهة نظرك في موضوع ما، كنت قديمًا شديد التمسك والإنحياز لها، وهذا يعكس نوعًا فريدًا من النضج. أما تغيير المعتقد والذي يختلف من بيئة إلى أخرى قد يحتاج لأكثر من المعرفة والخبرة، وفي غالبية الحالات يكون الألم أو الفقد هما الأبطال، لا سيما فيما يتعلق بالمعتقدات الاجتماعية التي تولدها أفكار معينة في بيئات بعينها.

فضيلة الاعتراف بالخطأ

نُعايش الآن واحدة من أعتى أزماتنا فيما يتعلق بالمعاملات الإنسانية، فاليقين الذي يتحدث به كل فرد عن كونه وحده من يملك الحقيقة الكاملة، وأن أي وجهات نظر أخرى للموضوع هي محض “هريّ” أو “هبد” أو “أي كلام”، مرعب. فيتحدث الجميع بالثقة واليقين ذاته، وكأن الصواب حكر عليه وحده، فيتحدث الجميع حديث الواثق المالك للحقيقة الكاملة.

والإشكالية الحقيقية في ذلك هي في خروج أجيال جديدة لا تعرف شيئًا عن فضيلة الاعتراف بالخطأ، التي من شأنها أن تدعم فطرة الله في كونه، فنحن مختلفون، ومعتقداتنا وأفكارنا هي الأخرى كذلك، لذلك فمن المنطقي أن يخطئ بعضنا ليصيب البعض الآخر، وهكذا حتى لا يخرج من تلك الدائرة سوى الملائكة، أما البشر فيصيبون ويخطئون، وليس هناك ثمة نقيصة في ذلك.

العمر مجرد رقم

بينما يختار بعض الأشخاص الحبس في زنزانة أعمارهم، يختار آخرون المضي وراء تجارب وعلاقات ومغامرات جديدة، لا يحتل العمر أي بعد في معادلاتها، فتجد شابًا في مقتبل عمره متفوق على من يكبره بعشرة أعوام، أو يحدث العكس، أن تجد رجلاً في خمسينياته يعيش بتوهج وطاقة لا يتحلى بهما ابنه صاحب الـ20 ربيعًا.

وهنا لا يتوقف الأمر عند حدود ما اطلعت عليه من كُتب، وما خضته من تجارب، وما صنعته من دوائر وعلاقات، لكنه ينطوي حول تفاعل ذلك كله، لجعلك شخص أكثر مرونة في التعامل مع كل مختلف عنك، وكذا تحليك بقدر عظيم من الشجاعة للاعتراف بأخطائك ومراجعتها من حين لآخر، بالإضافة إلى نضج مشاعرك، الذي من شأنه أن يجعلك شخصًا أكثر مسؤولية وأقل عاطفية، حينما يتعلق الأمر بالأمور العملية، وشخصًا يحمل في أعماقه قدرًا كبيرًا من التصالح والتسامح والمرونة مع أعتى معارضيه صلابة.

تقبُل الآخر

حينما يُخبرك أحدهم بأنك مختلف تمامًا عنه، فهذا -في غالبية الأحيان- سيصبح إعلانًا مرادفًا للعداء، أو في أقل تقدير عدم الوفاق، وكأن كل من ليس معك هو في الوقت ذاته بالضرورة ضدك. بينما تخبرك لحظات عزلتك وإدراكك لحقيقة تَغَيُر أمور كنت تحسبها أبدية، أن الأمر أبعد ما يكون عن ذلك. فكون أفكارك متغيرة وقابلة للتفتيت وإعادة التشكُل من شأنه أن يرمي أسسًا أكثر متانة في تقبل الآخر. هذا الآخر الذي قد يضعه النضج مستقبلاً في نفس موقعك.

التربية السليمة والنضج

لدي اعتقاد راسخ بأن الحرية مقترنة بكل الفضائل والمميزات، التي يمكن أن يتحلى بها أي إنسان على هذه الأرض. وفي عملية النضج أظن أن الأطفال الذين قُدر لهم حياة سوية والحرية بعدًا أساسيًا في حياتهم، هم الأكثر حظًا فيما يتعلق بعملية النضج السليم، فحرية تبني وجهات نظر معينة، مصادرها البحث والتقصي واستفتاء القلب، وقبول مساحة الخطأ بصدر رحب، من شأنها أن تخلق جيلاً واثقًا قويًا.

أما هؤلاء ممن تُفرض عليهم حيوات غيرهم، ليعيدوا إحياءها عبر أعمارهم وأحلامهم، هم أشخاص تعساء، يتأففون من طول الشهر وبطء ساعات اليوم، ويظنون أن تلك الحيوات التي حُمِلوا أحمالها، دون حرية تذكر ودون إعلان استيائهم، هي كوابيسهم التي يعايشونها نيامًا ومستيقظين، سيكون طريقهم إلى النضج، ملؤه العثرات والمخاوف.

حقيقة النضج

حينما يخبرك رجل واسع الثقافة، متحقق في عمله، في أواخر ثلاثينياته، أنه يبحث عن عروس في مقتبل عشرينياتها ليقترن بها، دون الأخذ في الاعتبار بشخصيتها وتحليها بالمسؤولية، وقدرتها على التكيف مع الظروف، ووعيها بطبيعة دورها كامرأة في المجتمع، لا مجرد زوجة وأم، فإن أول ما يتبادر لذهنك حول هذا الثلاثيني المطلع المثقف، أنه غير ناضج على أكثر من صعيد، حتى لو خُيل له عكس ذلك، بواقع موقعه المهني أو الاجتماعي.

ففي الوقت الذي يمكن لأحدهم ادعاء المعرفة، سيجد صعوبة في ممارسة تلك المعرفة مع النضج، فالنضج أشبه بعملية صقل لشخصيتك، بحيث ترى الأمور من منظور مثالي، وما تقتضيه تلك المثالية من عدم انجراف خلف الآراء الجمعية للمجتمع، بل ونقد المخالف للمنطق والواقع منها، ومحاولة تفادي أكبر قدر ممكن من أخطاء الآخرين في تجاربهم الماضية. بمعنى أكثر مباشرة، النضج هو التطبيق العملي لثقافتنا وفضيلتنا على مرأى ومسمع من الآخرين.


مجالات النضج

النضج العقلي

هو مرحلة يصل إليها الفرد بعد مروره بعدد من الخبرات والنقاشات، وكذا تحليه بعدد متنامٍ من القدرات والمهارات العقلية، التي تُمكنه من امتلاك وجهة نظر مستقلة. وبتزايد هذا النضج العقلي، يتمكن الشخص من نقد وجهات نظره المستقلة، وفقًا لما عايشه من مواقف وما تعرض له من خبرات، والخروج بأفكار أكثر صحة.

النضج العاطفي

يتعلق بقدرة الفرد على التحكم بانفعالاته وردود أفعاله، بحيث يحقق له ذلك قسطًا وافرًا من الاستقرار والهدوء النفسي، بدلاً من الاستغراق في سيل من المبالغة العاطفية جراء أفعال يتعرض لها بشكل متكرر، وكلما تطور النضج العاطفي تمكن الشخص من احتواء مشاعره، بل والتوصل لطريقة لاحتواء الآخرين متحليا بالصبر والمرونة.

النضج الاجتماعي

خلال هذا النوع من النضج، يتوصل الفرد بعد سلسلة من العزلة والتكور حول الذات والبعد عن الآخرين، إلى جوهر العلاقات الإنسانية والحياتية، بحيث يتمكن أخيرًا من عقد صداقات وعلاقات عمل والحفاظ على الواجبات الاجتماعية، مدفوعًا برغبة حقيقية في البقاء ضمن المجموعة، لما تمثله من أهمية. وكلما زاد نضج الفرد في هذا السياق تمكن من تجاوز الخلافات الشخصية وعلاقات العمل المؤججة بالصراعات والضغائن، وتمكن من التعامل بشكل أقرب ما يكون للمثالي مع نفسه والآخرين.


تصوراتنا عن أنفسنا

يربطنا بنرجسيتنا ذلك الحبل السري الذي ما من سبيل حقيقي لقطعه، وكلما زاد حجم معارفنا وخبراتنا في الحياة، ازداد هذا الحبل قوة ومتانة، ومعه يتضاعف إيماننا بكوننا كيانات استثنائية، يعتريها طوال الوقت خطب ما لا يتعلق بنا، بل بالآخرين ذوي الخبرات والمعارف القاصرة، فهم الشر المجرد في مواجهة خيرنا المتدفق.

كلما تمَكن الإنسان من الانفراد بنفسه، ليبارز أفكاره بالحقائق بينما تبارزه هي بالظنون، وينتصر عليها في المعركة تلو الأخرى، وصل في النهاية منتصرًا، بمعرفة حقيقة من يكون. حينها وحينها فقط تختفي نرجسيته، ونتوصل لحقيقة كوننا أبعد من تلك الصور المحدودة التي نطالعها عبر المرآة.

غاية النضج

تطور معتقداتك ووجهات نظرك الأصلية وحقيقة من تكون، من شأنه أن يجعلك شخصًا أفضل مع نفسك والآخرين، لكن ليس هذا فحسب هو غاية النضج ومبتغاه، فالحقيقة أننا حينما نعرف أننا أكثر مباشرة وأقل تعقيدًا مما اعتقدنا، وأن معادلة الحياة تتجاوز عدد الأعوام التي نحياها، نبدأ رحلة جديدة لنا مع نفس جديدة غير التي اعتدناها، تنسجم مع التفاصيل، وتعطي أسهمًا أكثر للتجربة، التي نحن أبناؤها، ونكن لها هذا الولاء الذي يكنه الصغار لأمهاتهم.

فالتجربة حينها تكون مجرد حدث، ضمن مجموعة من الأحداث التي تُشكل حيواتنا، وليس هذا الوحش الذي نخاف مواجهته، فننساه أو نتجاهله. ولعل هذا ما حاول صياغته في تعبير أكثر مباشرة أينشتاين حين قال:

في المدرسة يعلمونك الدرس ثم يختبرونك. أما الحياة فتختبرك ثم تعلمك الدرس.

المقالة السابقةالاختلاف حياة
المقالة القادمةعلاقة الابنة بأبيها: من مذكرات بنت الدكتور مصطفى محمود
كاتبة وصحفية مصرية

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا