علاقة الابنة بأبيها: من مذكرات بنت الدكتور مصطفى محمود

1312

بقلم: ياسمين غبارة

من ذكريات “أمل مصطفى محمود

علاقة الابنة بأبيها لها تأثير عميق في حياتها، وعندما يحدث الانفصال بين الأم والأب، تواجه علاقة الأب بابنته تهديدًا حقيقيًا، تهديد لم يتعامل معه الدكتور مصطفى محمود على أنه خطر أو قدر أو أحد الأضرار الجانبية لانسحابه من أرض المعركة، فهو لم يقفز ويترك ابنته وحيدة، وإنما أخذها في هبوطٍ تدريجي بالمظلة الهوائية ليصل بها إلى بر الأمان.

“أمل مصطفى محمود”، لم أجد كثيرًا من ملامح وروح العلاقة بين هذين الاسمين في مذكرات الدكتور مصطفى محمود ، ولكني وجدت كل شيء في مجموعة من المقالات بعنوان أبي، كتبتها ابنته “أمل”، ونشرتها  بعد وفاته في مجلة “صباح الخير“.

هل سماها “أمل” لأنه أراد أن يرى فيها أملاً ونورًا يحتمي بهما من كل ما قد يصطدم به في هذه الدنيا؟!

 نستشعر من تلك المقالات أنه زرع فيها كل ما يجعله يبتسم كلما رآها، فـ”أمل” هي مثال حي لكلمة “أم أبيها” التي لقبت بها السيدة فاطمة رضى الله عنها، حيث عبر مصطفى محمود عن أنه شعر بمشاعر الأمومة ثلاث مرات في حياته مع والدته، ثم مع أخته الكبيرة “زكية”، ثم مع ابنته “أمل” التي كان يسكن معها في نفس البناية بعد أن تزوجت وأصبح لها عائلة صغيرة، وقال إنها كانت تعتني به دائمًا، وعندما كان يفكر في أنه يحتاج إليها في شيء، يجدها أمامه وكأنها تشعر به.

وعبّرت أمل عن طبيعة تلك العلاقة عنما كتبت عنه قائلةً: “إنه حبيبي وابني المدلل”، ولكن إذا عدنا للوراء أكثر، فسنجد أن “أمل” كانت أيضًا بنت وحبيبة وقرة عين أبيها، فمصطفى محمود رغم كيانه المختلف وفكره المتَّقد وعقله النابض، فإن ذلك لم يمنعه من أن يستوعب ابنته ويستمتع بالنقاش معها في كل ما يشغل ذهنها، فكانت تحاوره وتجادله، ويقابل كل عنفوانها بابتسامته الحانية، ويترك لها الإحساس بالانتصار في النقاش وينسحب بجملة: “لكل قاعدة استثناء“.

مزاح الأب مع ابنته هو أكثر ما يُنبت بداخلها براحًا وأمانًا وطيفًا جميلاً من الذكريات، ومصطفى محمود كان يمزح مع أبنائه دائمًا، لدرجة أن “أمل” تقول إنه كان لديه “قاموس قفشات خاص به”. وإذا كانت الدراسات تقول إن انفصال الأب عن الأم يجعل الابنة عرضة للاكتئاب، فإن مصطفى محمود تحدى ذلك بمرحه ومزاحه مع ابنته، وبسلاح آخر بسيط جدًا، وهو أنه فقط ظل موجودًا بشكل أو بآخر في حياتها، يبتسم ويستمع ويأخذها إلى عالمه، يصطحبها إلى معرض الكتاب كل عام، فتراه وهو متحمس ومبتهج لوجوده وسط كل هذه الكتب، وكانت هذه اللحظات هي ما جعلتها تقترب منه أكثر، وتدرك أن الكتاب هو صديقه المفضل.

الدكتور مصطفى محمود رغم كونه مفكرًا وفيلسوفًا وعالمًا، فإنه لم يكن أبًا غامضًا، بل كان حانيًا رومانسيًّا طفوليًا في أبوته، وكانت “أمل” هي الحبيبة والأم والابنة والأمل. وعندما حاولت “أمل” أن توثق ذكرى خاصة متفردة بينها وبين أبيها، ذكرت شجرة الكافور،  تلك الشجرة الكبيرة على كورنيش العجوزة، حيث كانت نزهتها المفضلة مع أبيها، يجلسان تحت شجرة الكافور تظللهما، يُحضر لها الشوكولاتة التي تفضلها فتبتسم  وكأنها أميرة اللحظة، يقطف لها ورقة من الشجرة تشقها أمل نصفين فتفوح منها رائحة الكافور وتمتزج بطعم الشوكولاتة وبملامح أبيها الحانية، لتتشكل ذكرى محفورة في وجدانها للأبد.

المقالة السابقةالعمر مجرد رقم: النضج وأنواعه وأثره على حياتنا
المقالة القادمةالتعامل مع المراهقين: كيف غيرت حياة طلابي وطالباتي
كلامنا ألوان
مساحة حرة لمشاركات القراء

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا