كان جندي بريطاني يركب حمارًا إلى ثكنته بالعباسية -وكانت الحمير وسيلة الانتقال المألوفة آنذاك- وكان صاحب الحمار يسير خلفه ويظل طوال الطريق يكيل له السباب اعتمادًا على أنه لا يفهمه، حتى استوقفهما أحد المارة وأخبر الجندي البريطاني أن الفلاح يسبّه، فما كان من الجندي إلا أن سأله: وهل هذه الألفاظ تمنعني من الوصول إلى الثكنة؟ قال: لا طبعًا، فقال: إذن دعه يقول ما يشاء، فما يهمني أن أصل إلى حيث أريد.
ما أكثر الأشياء التي تشتتنا عن أهدافنا! هذه الأشياء لا يجب بالضرورة أن تكون أشياء سلبية كالسخرية والحقد ومحاولات الإيذاء، وإنما قد تكون فرصًا مغرية بمكاسب معنوية أو مادية كالترقي في وظيفة أو توفر فرصة تعلم رائعة أو… إلخ. وربما تكون مقاومة هذه المغريات أصعب من مقاومة المثبطات، فالثانية تكون واضحة أما الأولى فليست كذلك، فهي تخاطب رغبات الإنسان في الحصول على المكانة والشهرة والمال، ومن السهل أن يجد الإنسان لنفسه المبررات أو الدوافع لاغتنامها، لذلك تتطلب من الإنسان يقظة دائمة وتحديدًا واضحًا لأهدافه في الحياة وأن تكون لديه القدرة على التضحية بمكاسب عاجلة أو بمكاسب كبيرة في سبيل مكاسب آجلة ومكاسب أكبر من وجهة نظره هو، وليس بالضرورة من وجهة نظر الآخرين.
عندما تخرجت في الكلية، عملت بشركة جيدة جدًا من مختلف النواحي، فالإدارة جيدة، والزملاء رائعون، والمرتب مجزٍ، وهناك وسيلة انتقال منها وإليها تخصصها الشركة للعاملين بها. وكنت قد التحقت بالعمل في هذه الشركة أصلًا بإيعاز من بعض الأقارب الذين شجعوني على العمل حتى أجد عملًا في المجال الذي أريد، فأبحث وأنا أعمل، كما أن العمل سيوفر لي العلاقات التي ستساعدني في الوصول إلى مرادي، ووافقت. واشتغلت بهذه الشركة عامين لم يكن لديّ وقت خلالهما للبحث عن عملي المنشود أو تكوين العلاقات التي قيل لي عنها، وشعرت بعد هذين العامين أن عملي بالشركة لم يعد يضيف إليّ جديدًا، فقررت أن أتركها وأتجه إلى العمل الحر عبر الإنترنت. ووجهت وقتها بمعارضة شديدة من زملائي، ومديريّ الذين جلسوا معي أكثر من مرة محاولين إقناعي بالتراجع عما عزمت عليه، وكذلك من أهلي (ربما باستثناء أمي الرائعة التي كانت وما زالت تساندني في السير نحو ما أحبه وأؤمن به)، وقد استمرت هذه المحاولات حتى بعد تركي للشركة بشهور، مع العلم بأنني أثق بأنهم لا يريدون لي سوى الخير. وتكرر معي موقف مشابه في عملي لاحقًا، حيث توفرت لي فرصة رائعة للترقي والحصول على خبرات جديدة وربما تحقيق مكاسب مادية أيضًا، وكدت أقدم عليها، لكن الله هداني إلى سؤال نفسي: هل هذا هو حقًا ما أريد؟ فاكتشفت أن هذه الفرصة الرائعة ستأخذني بعيدًا عن أهدافي الحقيقية في الحياة، فتراجعت.
وربما أكون قد تأثرت في ذلك بما حكاه الأستاذ توفيق الحكيم عن نفسه في كتاب “علمتني الحياة”، حيث يقول: “ولم يكن أمامي خطر أخشاه إلا تعدد الهدف وحيرة الإرادة، وكان هذا الخطر من أشد ما تعرضت له في حياتي وكافحت للتغلب عليه. فقد تفتحت أمامي أبواب كثيرة كان من الممكن أن تغيّر مجرى حياتي.. كانت أمامي وظائف السلك القضائي، وكان أمامي الاشتغال بالسياسة.. بل كانت أمامي يومًا فرصة العمل للسينما على نطاق تجاري.. وكان في مقدوري النجاح في كل باب من هذه الأبواب، لأن طبيعتي قابلة للتكيف.. ولكن إيماني بوحدة الهدف جعلني أخصص نفسي لخدمة الأدب وحده”.
ويعرف النجاح في نظره قائلًا: “وكل نجاح يأتيني عن طريق آخر غير طريق هدفي الحقيقي، وهو تحقيق ذاتي في الخلق الأدبي الفني، هو نجاح لا يستحق في نظري بذل جهدي للحصول عليه، لأني لا أزن الحياة بميزان المنافع العاجلة. فالحياة عندي في جوهرها هي تحقيق الذات، أي استخراج خير ما في أعماق الإنسان من ملكات. وفي الإنسان أحيانًا ملكات كاذبة يجب في اعتقادي أن يضحي بها في سبيل إظهار الملكات الأصيلة.. حتى ولو كلفه ذلك خسارة مادية أو معنوية”.
نعم، لدى الإنسان ملكات ومواهب متعددة، ولكن بعضها أقوى وأحب إلى قلبه من غيرها، ومعرفة هذا البعض هي رحلة، والتركيز على هذا البعض هو ما يحقق الإشباع والنجاح الحقيقيين. فما هي ملكاتك الكاذبة وملكاتك الحقيقية؟ وهل أنتِ مستعدة للتضحية التي يتحدث عنها الأستاذ توفيق الحكيم؟
*****
كتاب “علمتني الحياة” كتاب رائع بقلم مجموعة من عظماء الشرق والغرب، يكتب كل منهم في بضع صفحات خلاصة خبرته في الحياة. الكتاب من إصدار دار الهلال، ولكن لأنه قديم ولم يعد يطبع يمكنك البحث عنه في سور الأزبكية!