يألف الحزن من عاش في وطنٍ محتل، حيث كل الأحداث مؤلمة، وفي كلِ يومٍ ذكرى، وعلى كلِ شبرٍ بقعة دم تُذكِّر بالراحلين. يألف الوجع من عاش يعُد الرفاق ما بين شهيدٍ وأسيرٍ وجريحٍ أصبح بعاهة. يألف الألم من عاش في وطن الأرامل والثكالى واليتامى، نألف كل ذلك وأكثر على أرض فلسطين، ونلجأ إلى الهروب من الواقع.
أنا ابنة غزة الصامدة التي أصبحت الحرب مفردة عادية في كلماتها، حرب غزة 2008، حرب غزة 2012 وحرب غزة 2014 أحداثٌ عايشتها بذهن واعٍ، وذاكرة تأبى النسيان، وكأن تلك الحروب انتهت منذ ساعات فقط. أنا ابنة غزة المدمرة حيث تجد في كل شارع بيتًا مهدمًا شاهدًا على الجرائم البشعة في حق الإنسانية. أنا ابنة غزة الثكلى التي فقدت عائلاتٍ بأكملها في بضعٍ ثوانٍ احتاجها طيار صهيوني لا يرحم، ليضغط زر إطلاق صاروخ يشتهي الدم واللحم. أنا ابنة غزة التي تعرف كيف تعيش رغم كل ذلك، لأنها تحب الحياة ما استطاعت إليها سبيلاً.
الهروب من الواقع المؤلم
حرب غزة 2014، عملية الجرف الصامد بلغة الاحتلال، معركة العصف المأكول كما أرادتها كتائب عز الدين القسام، والبنيان المرصوص كما أرادت لها حركة الجهاد الإسلامي. نحِّ هذه الأسماء جانبًا، فهي معركة الخوف والدم كما رآها الشعب الغزّي المسكين. من 8 يوليو حتى 26 أغسطس، خمسون يومًا في الجحيم قضيتها برفقة والدي فقط، دون وجود الأسرة المعتاد الذي هوّن الحروب القاسية من قبل. خمسون يومًا قضيتها وأنا أحاول التعافي من تجربة شخصية تركت في نفسي جرحًا مفتوحًا بطول الروح، وما بين جرحي وجرح الوطن أوجاع لا تنتهي، فكيف السبيل إلى الخلاص؟ كيف أنشغل عن صوت طائرة الاستطلاع التي ارتبطت بذاكرتي بصورة حارس الموت بمنجله المقيت؟ كيف أنشغل عن طائرة الـF16 وهي تحلق أعلى المبنى الذي أسكنه، وأشاهد من شباكي الصاروخ الذي أطلقته، ولحظاتٍ وأسمع انفجاره المدوي، ودقائق ويأتي الخبر من جهاز الراديو يُخبر عن العائلة التي انتهت أو المنزل الذي دُمر؟!
إنها القراءة، نعم كنت أقرأ بنهم، أقرأ بكثرة، أقرأ رغم انقطاع الكهرباء، أقرأ والقصف مستمر، أقرأ والراديو لا يكف عن تعداد الشهداء والجرحى، أقرأ وأنا على يقين أنه قد تكون الورقة التي أقرأها آخر عهدي بالدنيا. قبل الحرب، كانت صديقتي قد جلبت لي ما يقارب عشرين عددًا من سلسلة فانتازيا، وكان عندي مجموعة من الكتب، ولم أجد في نفسي طاقة لقراءتها، ولم أكن أعرف أن الله يعطل قراءتها لتلك الأيام المشؤومة. أذكر أن تحدي القراءة على موقع جودريدز أنجزته في عام الحرب، بينما لم أفعل هذا العام ولا العام السابق. حقًا كانت الكتب الملجأ، الشاغل عن ذلك الجنون، طاقة النور في قلب العتمة، والمخرج الذي يأخذني لعوالم أخرى بعيدًا عن عالمي الدامي.
بالطبع كنت خائفة طوال الوقت، أبكي الراحلين، أخاف على والدي والمقربين، أتوجع وأنا أشاهد مناظر الدم واللحم والدمار، أتذكر وجع التجربة، ومع كل ذلك أقرأ. وقتها لم أكن أعرف أنها طريقة للهروب من الواقع، لكن بعد انتهاء الحرب عرفت، وكنت ممتنة بشدة لذلك؛ لأنها طريقة الهروب الأجمل على الإطلاق.
الهروب من الواقع إلى الخيال
انتهت الحرب، وبدأت في داخلي حربٌ أخرى، فإذا كانت القراءة شغلتني عن الحرب، فصدقًا الحرب شغلتني عن التجربة التي هدّتني تمامًا. هذه المرة كان الهروب بالكتابة، كتبت كثيرًا ولم أسمح لأحدٍ أن يقرأ، ظللت أكتب وبالكتابة أرتب فوضى روحي، وفقط صديقتي يُمنى تقرأ، بعد فترة شحنتني الكتابة بقدرٍ من الثقة جعلني أُرسل أول مقالٍ لـ”نون” الحبيبة، وعندها أصبحت الكتابة شغف بل وعمل أيضًا يوفر لي قدرًا من الاستقلالية والأمان المادي.
مر العام الأول ما بعد التجربة بالقراءة والكتابة، ثم كان العام التالي عام التعافي، التعافي بالسينما. #سأهزمهم_بالسينما مشروعي الصغير للتعافي من الوجع، الاكتئاب، اليأس وفقدان الشغف. السينما الفن الأكثر تأثيرًا في البشر، والأكثر جمالاً، والذي لا يتطلب منك الكثير. شاهد فيلمًا في السينما أو التلفاز أو على أي جهازٍ إلكتروني لديك، ودعه يأخذك لعالمه، كن البطل أو البطلة لساعة أو اثنتين، سافر لبلدانٍ قد لا تستطيع أن تصلها يومًا، عش تجارب جديدة غريبة، كن طيارًا أو قرصانًا أو غواصًا أو سياسيًا، انسَ حزنك وفكر في أحزان البطلة، انسَ مشكلتك واندمج في مشكلة البطل، ثم استشعر كيف سيقل حزنك ولو قليلاً. السينما ليست حياة، إنما حيوات أخرى تنتظرك لاقتحامها، فلا تتردد.
مرض الهروب من الواقع
يُعرف د. نادر ياغي الاستشاري النفسي، الهروب من الواقع على أنه رد فعل تجاه حدثٍ ما في حياة الشخص، يعجز عن مواجهته، فيلجأ لممارسة أنشطة تؤجل عملية المواجهة، مثل: الانطوائية، إدمان الطعام، إدمان الإنترنت، إدمان النوم، أحلام اليقظة. ويتابع د. ياغي أن في بعض الأحيان يلجأ الشخص إلى بناء حياة موازية في أحلامه، ويرسم لنفسه شخصية غير موجودة على أرض الواقع. ويرى د. ياغي أن الهروب من الواقع في بدايته يُعد اضطرابًا نفسيًا، إذا أُهمل قد يتحول إلى مرض نفسي.
أحلام اليقظة شكل من أشكال الهروب من الواقع، وهي أمر طبيعي طالما كانت بشكلٍ محدود يتناسب مع عمر الشخص، فالإنسان في سن المراهقة أحلام يقظته أكثر من شخص في عمر الأربعين، ويُمكن اعتبار أحلام اليقظة مؤشر سلبي إذا زادت عن الحد، وأصبحت تؤثر سلبًا على نشاط وحياة الشخص.
تعرفي على: ما هي الشخصية الانطوائية، وما هي سماتها
علاج الهروب من الواقع
الهروب من الواقع.. عبارة قد يراها البعض تقطر سلبية، لكن ليس كل الهروب سيئًا، هناك هروب جميل وضروري، الهروب الجميل من الواقع فرصة لالتقاط الأنفاس حتى نعود للواقع لنقاوم بقوة المشاعر السلبية، راحة مؤقتة من المشكلات حتى نعود للمعافرة لحلها. عندما تهرب، فقط تذكر أن الحياة كرٌّ وفرٌّ لتعود سريعًا.
يرى بعض الأطباء النفسيين أن الهروب من الواقع يتطلب من المرء وقفة مع النفس فقط، ليسأل نفسه: هل الهروب من الواقع رد فعل على أمرٍ ما؟، أحيانًا يكون العلاج بسيط للغاية، بأن يكتشف الشخص ما الذي يدفعه للهروب؟ إساءة ما، فشل ما، أو أي سبب آخر، وبعد المعرفة تأتي المواجهة ثم التوازن.
يصبح الهروب من الواقع اضطرابًا ثم مرضًا عندما يؤثر سلبًا على حياة الشخص، عندما يصبح غير قادر على مواجهة مشكلاته، فيقرر الانعزال أو إدمان أمر ما أو يغرق في خياله أو يعجز عن الوصول إلى حالة توازن، عندها فالحل الأمثل هو طلب المساعدة النفسية سواء من طبيب نفسي أو أخصائي نفسي.