كلنا راحلون

1801

في العام الثاني من دراستي الإعدادية مات أستاذي. 

لم أكن أعلم عن الموت شيئًا. لم أكوِّن خبرة عنه في سنوات حياتي القليلة. كنت طفلة أنهت دراستها الابتدائية.. ذكية.. شقية.. تحب القراءة ولا تجلس بمكان واحد لأكثر من 10 دقائق. 

 

ما الذي جذبه في طفلة كهذه ليتعهدها بالرعاية؟!

يهديها كتبًا من مكتبته ويحدثها عن الموسيقى والفلسفة في الفسحة وفي الحصص الفارغة، يرسم في كراساتها طيورًا وزهورًا ومواكب من الفتيات الجميلات!

 

لم يكن يميزني شيء عن بنات المدرسة سوى جرأة ورغبة في بناء الكون بعد هدمه، وقدرة لا نهائية على النقاش وابتكار أسئلة من الهواء.

والكتابة.. كنت أكتب في دفتر صغير كل ما يمر بيومي وكل ما يدور بخاطري، وبين الحصص آخذ الدفتر الصغير وأهرع إليه فيصحح لي جملة ويشرح لي تعبيرًا جديدًا ويختبرني في الإعراب ومعاني الكلمات.

 

قد يوحي كلامي بأنه مدرس لغة عربية وأنا التلميذة التي تكتب، أعجوبة المدرسة، سقراط كما كان يلقبني باقي المدرسين. لكن الحقيقة أن أستاذ طارق كان مدرس الرياضيات القادم من قرية كفر شكر محافظة القليوبية الذي يكبرني بثلاثة عشر عامًا.

 

ذات مرة سألته: “فين كفر شكر دي يا أستاذ؟”، فقال لي: “تعالي في الفسحة وهقولك”، وفي الفسحة في غرفة المدرسين فرد أمامي خريطة لمحافظة القليوبية وشرح لي موقعها على النيل، ومعنى أن يكون للمحافظة عاصمة، وكيف تتمركز المصالح الحكومية بها. وبعد الشرح أشار إلى قرية صغيرة وقال بفخر “ودي بقى كفر شكر”، ومد خطًا مستقيمًا بين كفر شكر وشبرا الخيمة لأعرف المسافة التي يقطعها يوميًا من بيته للمدرسة. هذا الخط الأول الذي علّمني أن مكان العمل ليس من الضروري أن يكون قريبًا من البيت، وأن هذا الكفاح اليومي من أجل لقمة العيش والراتب هو ما يجعلنا كبارًا، وأن تلك بالضبط هي المسافة الضرورية للنضج.

 

كنت أتعلق به يومًا بعد يوم. دعوته لمنزلنا وتعرف على أبي. حدثته عن رجل المستحيل ومعتقل سيبيريا وثلوج روسيا التي كانت تفتنني. حكيت له عن قطتي ودميتي وملصقات الفراشات الملونة التي ألصقها بمكتبتي.

 

حتى كان نهاية العام الدراسي. نهاية كل شىء. في البداية تغيَّب عن الحضور للمدرسة واستلم حصصه معلم آخر. مدرس رياضيات كفء لكنه لا يعرف الموسيقى ولا يجد وقتًا للقراءة ولا يضحك عندما أقول لزميلاتي “يا رب أخلص منكم في معتقل سيبيريا”.

كنت دائمة التردد على غرفة المعلمين.. أذهب في اليوم مرتين أو أكثر، وفي كل زيارة أسأل عنه فيقولوا “أصله في أجازة”. إجازة طويلة لا تنتهي. 

سألت الناظر، متى سيعود أستاذ طارق فقال لي العام القادم. 

ذهب أبي للمدرسة وطلب رقم تليفونه واتصلنا بمنزل أسرته، فعلمنا أنه في المستشفى.. مستشفى بنها التعليمية. بنها القريبة من قرية كفر شكر.

 

انتظرت أن تبدأ الإجازة وأحصيت الأيام حتى تنتهى، عدت للمدرسة وأنا أتوقع أني سأجده في طابور الصباح يضحك ويشير لي بعلامة التميز لأنني الوحيدة التي تقف انتباه أثناء تحية العلم. لكنه لم يكن موجودًا.

سألت عنه مرة أخرى فقالوا لي “لسه أجازة”، فسكت. 

 

وعندما كنت في المكتبة لأستعير كتابًا عرفت من ثرثرة أبلة منى مدرسة الدراسات الاجتماعية وأبلة سهير أمينة المكتبة كل شيء. أستاذ طارق مريض بالسرطان. خلايا المخ تدمرت تمامًا. خضع لجراحة تلو الأخرى، لكن الأطباء لم يتمكنوا من السيطرة على الخلايا المتوحشة. 

مصمصت أبلة منى شفتيها وقالت لأمينة المكتبة “والنبي يا سهير لو شفتيه يصعب عليكي.. شعره محلوق ودماغه متبهدلة وخس وعِدِم”.

 

شكرًا جزيلاً يا أبلة منى على الصدمة التي لم أستطع تجاوزها حتى اليوم. شكرًا على 22 عامًا ما زالت مصمصة شفاهك ترن في أذني.

 

بعد هذا الحديث بيومين مات أستاذ طارق. 

 

بعد الحصة الثانية أعادونا لمنازلنا بأمر من مدير المدرسة لأن كل المدرسين سوف يذهبون للدفن والجنازة. 

كنت أعلم.. كنت الوحيدة من بين طالبات المدرسة التي كانت تعلم كيف مات ولماذا. لكني لم أتكلم. كلهن بكين لكني لم أبكِ. جلست وحدي في الفصل الخاوي في المدرسة الخاوية لأكثر من ساعة. ثم ذهبت لمنزلي ونمت حتى صباح اليوم التالي.

 

وفي اليوم التالي والعامين التاليين استبدلت الزي المدرسي بملابس سوداء. 

كانت المرة الأولى التي أرتدي فيها الأسود. المرة الأولى التي أحدُّ على راحل. بعد هذا رحل العديد من أهلي ومن معارفي ومن أصدقائي. 

 

لقَّنت جدتي الشهادتين وتعرفت على زميل في المشرحة بعد حادثة تعرضنا لها في الجامعة. قبَّلتُ جدتي الأخرى على جبينها قبل التكفين. وأعددت كفن جدي. وقفت على قبور كثيرة وقرأت القرآن ودعوت وأمَّنت. وعدت في النهاية وحدي وبقوا في النهاية وحدهم. 

 

رحل من رحل وبقى من بقى. وفي قلبي الذي عرف الحداد مبكرًا أيقنت أن الأيام إلى زوال، وعدد الراحلين أكبر من عدد الباقين. 

 

تعلمت أن أعيش لحظتي الحالية.. يومي الحالي وأن أفرح وأن أسعد وأن أتجاوز ألم الغياب ومرارة الوحشة. 

وتعلمت الأهم.. كلنا راحلون. 

المقالة السابقةالهروب من الواقع ورأي علم النفس فيه، هل هو مرض؟
المقالة القادمةالرقصة اللي غيرت حياتي

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا