“إننا نسعى للحب الذي نظن أننا نستحقه”.
لم تفارق هذه الجملة خيالي أبدًا، خصوصًا بعد خروجي من عدة علاقات إنسانية على صعيديّ الصداقة والحب، استهلكتني إلى حد لم أستطع بعده تقديم أي شيء لأي أحد لمدة ليست بقصيرة، علاقات أشعرتني أننا بحاجة إلى التغيير، فليس من الطبيعي أن يكون كل من يقتربون مني يماثلون شر “زينة” في مسلسل “لأعلى سعر”، كلهم بمعنى الكلمة! ثمة شيء خاطئ، حلقة ناقصة في الموضوع، أو نقطة مفقودة في المعادلة، ظللت أبحث عنها حتى رأيت هذه الجملة، الجملة التي أثارت عقلي تجاه نفسي، وجعلتني أفكر فيها بشكل مختلف كليًا، لأستشف بها ومنها أن ربما يكون لي يد فيما حدث دون حتى أن أعرف، ربما أنا من بحثت عن الحب عند الشخصيات الخطأ، ظنًا مني أن هذا ما أستحقه.
قد يستغرب البعض منكم، ويتساءل، كيف لضحية أن تلوم نفسها على تجربة تدمير نفسي شامل مرت بها، كان سببًا فيها عدد من الأصدقاء والأحباب الذين ظننتهم سندًا لي أستطيع أن أواجه به أعتى الأمواج، لكنكم -إن فكرت في الأمر قليلاً- لربما تربطون الأمور بعضها ببعض، وترون الصورة الكاملة التي رأيتها، بعد أن جمعت كل الحلقات الناقصة معًا.
فالإنسان في حد ذاته هو سطح عاكس لنفسه، فبعد أن تتبلور نظرته لنفسه وإيمانه بذاته، تنعكس هذه النظرة على علاقاته الإنسانية، وعلى نظرة الناس له، ومن ثم يكون هو ذاته الحلقة المفقودة التي يبحث عنها الجميع في علاقاتهم مع غيرهم من البشر، والتي تجعلهم في تيه دائم وبحث حثيث عن الحب أو الاحترام أو التقدير في أي مكان، نظرًا إلى أنه لا يحب ذاته أو يحترمها أو يقدرها بالقدر الكافي الذي تستحق في المقام الأول، بل يبحث عن الحب خارجها، قبل أن يجده في قرارة نفسه، فيحب نفسه حبًا ضئيلاً جدًا، حبًا مشروطًا بأن يكون نقيًا خاليًا من العيوب، بما يجعله يبحث عن نفس النوع من الحب لدى الآخرين، الذين يحرصون على أن يشعروه بأنه يجب أن يعطي كل ما لديه حتى ينعم بحبهم، وأن يكون على الدرب الذي رسموه له في الحياة دون أن يخرج عن الخط، فإذا ما حاول البحث عن ذاته في فضاءات أكثر رحابة، وجد أبوابهم قد أُوصِدَت في وجهه، ليدرك أن الحب المشروط هو الأساس، وأن العيوب والأخطاء لا مجال لقبولها بين الناس، فيرفضها، ويهمشها، ويورايها في مرآته عن نفسه حتى.
***
قال لي شمس: “لقد فقدتْ هالتكِ بريقها لأنكِ أقنعتِ نفسِك طوال هذه السنوات بأنك قذرة من الداخل والخارج”، فقلت له: “لست قذرة؟! ألا تعرف ماذا أفعل لأكسب رزقي؟!”، فقال: “إذا أراد المرء أن يُغير الطريقة التي يعامله بها الناس، فيجب عليه أن يغير الطريقة التي يعامل بها نفسه أولاً، وإذا لم يتعلم كيف يحب نفسه حبًا كاملاً صادقًا، فلا توجد وسيلة يمكنه فيها أن يُحبّ، فكيف يمكن للمرء أن يلوم الآخرين لأنهم لا يحترمونه إذا لم يكن يعتبر نفسه جديرًا بالاحترام؟! وهذه قاعدة من القواعد الأربعين”، ثم أخرج منديلاً حريريًا من جيب عباءته وقال: “احتفظي به، لقد أعطانى إياه رجل طيب في بغداد، لكنك بحاجة إليه أكثر مني، إنه سيذكرك بأن قلبك نقي وبأنك تحملين الله في داخلك”.
أثناء قراءتي الأولى لرواية “قواعد العشق الأربعون”، استوقفني هذا المقطع، قرأته مرات عدة، وشعرت أنه ينفذ إلى أعماقي. وقفت أمام المرآة الكبيرة القابعة أمام سريري، ونظرت إلى نفسي وقد امتلأت عيناي بالدموع، لأشعر أنني قد بخست نفسي قدرها كثيرًا، وأنني وضعتها تحت وطأة الحب المشروط، لأنني لم أحبها بشكل كافٍ من الأساس، فأدخلتها في علاقات كثيرة متعاقبة تبخسها قدرها أيضًا، علاقات لا تقبلها بعيوبها ومزاياها، فلم أرَ نفسى جميلة قط، لذلك شعرت أن كل من حولي لا يروني جميلة بدورهم، ولم أر نقاط القوة في قط، فانجذبت لكل من لم ير في القدرة على الفعل أو العمل أو النجاح، ولم أر أنني أستحق الاهتمام الكافي قط، فانجذبت لأشخاص لم يعطوني ولو قدرًا ضئيلاً منه، ولم أر أنني أستحق أن أسير في ركاب العائدين إلى الله التائبين لرحمته، فلم أتوقف عن فعل ذنوب كانت تستنزف إحساسي بالله في حياتي، لكني عرفت لاحقًا -كما عرف شمس التبريزي جيدًا- أن الحب ينبع من الداخل، يبدأ من الإنسان، ويخرج ليصنع حوله هالة من نور، تؤهله لأن يرى السلام النفسي، ويلمسه بقلبه، وأن يُدرِك أنه يستحق أكثر مما يعطي لذاته، وأنه لن يلقى الحب والاحترام الذي يبحث عنه إلا حين يقدمه لنفسه، إن الحياة أوسع بكثير من نظرتنا الضيقة لأنفسنا في أعيننا وفي أعين الناس، وأرحب من مقومات الحب المشروط التي تخلق دائرة من القيود علينا.
***
أن نقبل أنفسنا كما نحن، هذا هو المكون السحري الناقص في المعادلة، أن نحبنا كما نحن، نقبل ذلاتنا وضعفنا البشري، نتعرف على نقاط قوانا وضعفنا، نرى أننا نستحق الحب، فلا نلقي بأنفسنا في طريق أولئك من يحطون من قدرنا، ولا في طريق أولئك الذين ينبهرون بنا إلى حد يصعُب معهم أن يقبلوا أننا نخطئ، وأن نتوقف عن أن نورث الحب المشروط لغيرنا، فنمحو من قواميس الحب أي جملة “أحبك ولكن بشرط…”، أن نكون السند الأول لذواتنا، والداعم الرئيسي لأنفسنا، هذا أيضًا من قواعد العشق.