سناء.. سيدة تصاحب الأزمنة القديمة وتبيع الفرح

375

عدسة/ منال السيد

اكتست ملامحها بسمرة مشبعة باحمرار غير مزعج، لفتت نظرنا حين ظلت تبتسم لمن يأتي إليها ويسأل عن الأسعار ولا يشتري شيئًا، وهي تحافظ على ذات الابتسامة دون غضب، وأيضًا بصبر لا يرمي إلى غصب.

 

اقتربت منها وهي تجلس على كرسي متهالك داخل محل لبيع الأنتيكا بشارع المعز بمنطقة الحسين، أجلست بجانبها قطة تناديها “عنبة” وأخرجت كيسًا بلاستيكيًا أسود وفتحته وتركت القطة لوليمة قد لم تكن تنتظرها، تبتسم السيدة صاحبة الإيشارب المصري القديم الذي ارتدته على الطريقة البعيدة، وربطته خلف أذنيها، وظلت توزع ابتسامات حتى ظننتها الأكثر حظًا وسعادة هنا في ذلك المكان.

 

“سناء نجم” بائعة التليفونات القديمة والكاميرات والأواني النحاسية بأشكالها، والفوانيس العتيقة الأقرب إلى إضاءات القصور القريبة من المكان، تماثيل لسيدات يونانيات يجاورن “سناء” في إنصات ملهم داخل دكانها الصغير الممتلئ عن آخره بسنوات مضت ولم تُعد، يجلس بجوارها الكثير من الذكريات العابرة، مئات الأدوات التي تخص بشرًا مروا من هنا. حين اقتربنا منها للحديث عنها وعن ما يشغل المكان حولها علمنا أنها زوجة صاحب الدكان المريض الراقد في المنزل، وهي التي تقف يوميًا على أمل البيع، ليس لديها حاليًا أبناء، كان لديها ابن وتوفاه الله.

 

كانت منذ عشرين عامًا تصمم الذهب وتصنعه، تتحدث عن الشغل اليدوي في الذهب وتتذوق نبرة حزن في لسانها، مؤكدة أنها في الماضي كانت تُدرِّب طلبة ورش مشغولات ذهبية، حين كانت تطلب منها ذلك الغرفة التجارية بالقاهرة. تروي كيف كانت تصنع المشغولات الذهبية بتصميمات تبهر أصحاب المحال في الصاغة، مستخدمة “بوري النار” والخرطوم الخاص بها، وتدخلك في مشهد بديع.

 

شارع المعز لم يعد كما كان في رأي “سناء”، فالركود أصبح سمة المكان، ولا شيء سوى بشر أتوا لمعاينة الماضي الكامن بين جدرانه ليس إلا، من يأتي يأتي للتنزُّه لا للشراء، وهو ما جعلها رغمًا عنها تواكب الوقت وتحضر بيشة وطرابيش قديمة وعصي وملاءات لف لتأجيرها والتصوير بها، حتى لا تعود إلى المنزل دون شيء، كما تبيع أدوات صناعة القهوة من سبرتاية وكنكة.

 

تمنحنا “سناء” دون قصد منها الكثير من التفاصيل، حين تشير إلى أشيائها داخل الدكان قطعة قطعة، وهي تروي تاريخها وماذا كان يُفعَل بها في الماضي، الفانوس الأقرب إلى فانوس علاء الدين، وكيف كان يوضع فيه المادة المشتعلة وإشعال الفتيل وتحمله فترات ليلية طويلة دون كلل، خصوصًا أنه مصنوع من النحاس. الكثير من الأواني الخاصة بالطهو النحاسية، التي لا ترتفع أسعارها قدر ما تختبئ ولا يوليها البعض اهتمامًا مقابل الأواني السيراميك والتيفال والجرانيت الآن، شوايات اللحم أيضًا، العقود والمسابح الخشبية الدافئة، البراويز التي تشهد في صمت على وجوه جلست بداخلها وأدت مهمتها ورحلت، تليفونات الحكومة القديمة التي اشترتها ممن اعتبرها لا فائدة منها اليوم.

 

تحصل “سناء” على بضاعتها ممن يريد التخلص من قديمه فيأتيها، أو تعلم عن مزاد متواضع فتذهب للشراء منه، إلا أنها منذ فترة توقفت واكتفت بما هو موجود لانشغالها بمرض زوجها.

 

حين نكتفي من الحديث الشيق معها ونتوقف ونحن نمتن لها ذلك الوقت، تطلب منا أن ندعو لها الله أن يشفي زوجها، فهو كل ما تملكه في الحياة ويتبقى لها، نرحل ونترك “سناء” وسط زحام من الأزمنة ونحن نتمنى لها شفاء الزوج والحفاظ على ابتسامتها الرائقة، علَّ الأزمنة الجالسة معها تضفي عليها رحمة وصبر وسعادة أصحابها العابرين سريعًا.

المقالة السابقةالإنسان.. السطح العاكس جدًا لذاته
المقالة القادمةجناب السفير “نادر التركي”.. بالهنا والشفا
كاتبة وصحفية مصرية

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا