ذات نهار كنت أجلس مع نفسي وإذا بي -دون مقدمات- أشهد الحوار التالي.
تقول الأنا الــمُحبَطَة: لم تعد الحياة مُلهِمة بما يكفي للقدرة على التضحية بجزء ثمين من الروح -بشكل شبه يومي تتطلبه مقتضيات الحياة- وتقديمه بأريحية وإبداع في لوحة أو كتاب أو حتى وصفة طبخ، لا شيء يستحق. رُبما لا يعرف كثيرون أنك حين ترسم، تكتب، تعمل أو تطبخ، عليك أن تفعل ذلك بحُب وإلا أصبحت مثلك مثل كثيرين يفعلون الشيء نفسه.
وجود الحب كعامل مُحفّز في المعادلة يسمح بتسريب قدر من روحك الشفافة ووضعها ضمن مكونات ما تفعل، فتأتي النتيجة مُدهشة وصادقة يتماس معها كل من يمر بها. ولكي تُقدم على ذلك لا بد من توافر شرط آخر بجوار الحُب، وهو الإلهام. ذلك الشيء الذي يمنحك القدرة على الانطلاقة الأولى للأمام، فتُكمل رحلتك بعد ذلك.
الإلهام لا يجب عليه أن يزور فقط الفنانين أو ذوي الخيال، فكلنا نحتاج إلهامًا بشكل أو بآخر.. أليس كذلك؟
وقد يكون الحب نفسه في بعض الأوقات هو الإلهام الأعظم، ولكن ماذا لو أن الحب وحده لا يكفي؟ أو أنك تحتاج أن تقوم بعمل شيء ما جديد لم تُحبه من قبل، فقط لديك بعض الشغف أو رُبما الاضطرار لفعله، لكنك ما زلت غير قادر على البدء؟
فتُجيب الأنا الــمُلهَمَة: عليكِ أن تعرفي أنكِ إذا ما أوصدتِ الباب بوجه الإلهام أو آمنتِ حقًا أنه لن يأتي أبدًا فاعلمي أنه سيؤكد ظنك ولن يأتي. فلماذا يتكبد عناء الطريق إليكِ وسط كل المعوقات التي ذكرتِها أنتِ نفسك، طالما يُدرك مُسبقًا أنه لن يتم الاحتفاء به؟
ثم من قال إن الإلهام عليه أن يكون جميلًا، فالبعض يُلهمهم الفشل، آخرون يلهمهم الوجع، هناك من تُلهمهم الغُربة، بل وحتى أن هناك أحيانًا أشخاصًا يُلهمهم الموت. فليس المهم ما يُلهمنا قدر ما يهم أن نترك أبوابنا مفتوحة ولو قليلًا لمفردات مثل الحب والبهجة والتجربة والإلهام، وأن نُصدق في كل تلك الأشياء إذا ما أردنا أن تُصدق هي فينا.
لا تجلسي بعيدًا وتنتظري كل الأشياء أن تحدث لكِ، انطلقي أنتِ وابحثي عما تُريدين واجعلي تعبك، مثابرتك، تجربتك، بل وغلطك أحيانًا، نقاط قوة ترتكزين عليها للوصول، ولا تفقدي أبدًا إيمانك بذاتك. وقتها ليس فقط ستجدين الإلهام الذي خانك الحظ فظننتِه رحل دون رجعة، بل ستصبحين دون أن تَدري مصدر إلهام لآخرين، سيرون فيكِ الأمل والدليل، نعم.. ستصبحين أنتِ بنفسك أنا مُــلـهِــمَة.
الأنا الــمُحبَطَة: تتحدثين كما لو أن الأمر بسيط جدًا وأنك على يقين مما تقولين! الإلهام لن يأتي فقط لمجرد أننا نصدق أو حتى ندَّعي أننا نصدق! الأمر يتطلب ما هو أكثر من ذلك. هل أخبرك شيئًا؟ أنا نفسي أفكر أحيانًا لو أنني كنت الإلهام، لم أكن لآتي أيضًا. في مكان موحش مثل عالمنا بشكله الحالي تحتاج الأشياء أن تكون أكثر من مدهشة ورائعة كي تملك القوة لتمنحنا دَفعة للأمام وأمل فيما قد يحدث.
في الوقت نفسه الذي أصبحت فيه أرواحنا مستنزفة لدرجة لا تساعدنا على امتلاك القدرة أو القوة للبحث والمعافرة، أو التشبث بآخر الخيط، حتى وإن كان في ذلك نجاتنا، لقد كبرنا، كبرت أرواحنا وأصبحت عجوزًا بينما أعمارنا طبقًا لتواريخ ميلادنا الحقيقية ما زالت في البدايات. لقد هُزمنا ولم يعد لدينا رغبة في التضحية بما هو أكثر من ذلك. تقولين أنني قد أصبح يومًا ما مُلهِمَة، لا يمكنني إذن إلا أن أتهمك بالجنون أو الفجور.
الأنا الــمُلهَمَة: رُبما لا تُصدقينني الآن، لكنك تعلمين في داخلك أن طاقات النور لم تندثر بعد، حتى أن محادثتنا تلك نفسها هي محاولة منك للبحث والنبش عما تظنينه قد رحل بلا رجعة. لو أن أشياءً مثل الإلهام، الشغف، الإيمان انتهت فعلًا لكنا مُتنا جميعًا، ونحن لم نمُت، أليس كذلك؟
رُبما أصبحت الحياة مظلمة بعض الشيء، أو أن القلوب قد زادت قسوة، لكن هذا لا يعني أن نفقد الإيمان بالغد، ففقد الإيمان بالآخر لن يلبث أن يؤدي بنا إلى فقد الإيمان بأنفسنا.
عزيزتي.. أنا لا أطلب منك سوى فتح شبابيك روحك قليلًا إذا أردتِ أن تُبصري النور والألوان وأجنحة الفراشات، امنحي نفسك فرصة أن تتنفسي الحياة بقلبك، وتذكري دومًا أننا أصل كل الأشياء، فإذا لم يكن بداخلك الحب والقوة والإلهام فمهما كانوا حولك لن تريهم أبدًا، وضعي دومًا نصب عينيك مقولة الإمام علي بن أبي طالب:
وتحسب أنك جـِرمٌ صغير.. وفيك انطوى العالم الأكبر
داؤك منك وما تبصر.. دواؤك فيك وما تشعر