بقلم: د. يوسف برودي
ترجمة: رزان محمود
نرى مرة بعد أخرى الجمال يتشكّل خارجًا من رحم المعاناة.
“يعتبر الإحساس والشوق قوتين دافعتين خلف كل السعي البشري والإبداعات الإنسانية”.
– ألبرت أينشتاين.
“المطلوب منا أن نحب الصعاب، ونتعلم كيفية التعامل معها. ففي الصعوبات تكمن القوى الصديقة والأيدي التي تعمل على تشكيلنا. وفي الصِعاب يجب أن نحصل على متعنا وسعادتنا وأحلامنا، والتي في مقابل عمق الصعوبات تقف متفردة، ونرى لأول مرة مدى جمالها”.
– رايني ماريا ريلكه.
ما العلاقة بين الألم الشعوري والأفكار والأفعال الإبداعية؟
في رواية عالم جديد شجاع، تخيّل الكاتب ألدوسهكسلي مستقبلاً يقع ضمن تصنيف “نقيض اليوتوبيا”، والذي فيه نجحت الآلام النفسية في أن تصبح شيئًا من الماضي، في مجتمع يعيش فيه بشر لا يتوقعون أقل من السعادة طيلة الوقت. أصبحت العواطف السلبية غير ضرورية على الإطلاق، حيث إنها تذوب كليةً لدى ابتلاعك مادة شهية واسعة الانتشار وبلا آثار جانبية، تُدعى “سوما”.
إذا كان منع كل آلام الحياة بسهولة تناول قرص سوما فهل ستتناوله؟
ولو الآن الأمر كذلك، كيف تظن أن هذا سيؤثر على إنتاجك الإبداعي؟
وبينما يمكن للألم النفسي أن يسبب كل أنواع المعاناة، فيمكنه أن يصبح أيضًا محرّكًا مهمًا للإبداع الإنساني. تستطيع المِحن أن تفيدنا، حيث إننا غالبًا ما نتحرّك نحو الإبداع، لحاجتنا إلى الشعور بأننا أفضل، ولتحسين جودة حيواتنا وحياة مَن يحيطون بنا.
تعتقد نظريات عِلم النفس أن بإمكان المشاعر السلبية تعزيز الإبداع بالعديد من الطرق. والأهم، فإن المشاعر المُحزنة تسمح بإفراز طاقة للعمل، كما يُعدّ التسامي بمصادر القلق لتصبح إنتاجًا مبدعًا واحدًا من أصحّ الطرق الممكنة للتأقلم مع الألم.
توفّر المصاعب الشعورية أيضًا بئرًا مهمة للمحتوى، ومصدرًا لا ينتهي من الموادّ التي يمكن التعبير عنها. وبسبب ذلك، فإن المنع الافتراضي للألم النفسي سيقلل جدًا من مدى الإبداع البشري في كلٍ من الفنون والعلوم والجمال والحق. وفي عالم ألدوسهكسلي، كان المتوحشون فقط هم من قدّروا التعقيد العاطفي لأعمال شكسبير، الشاعر المنسيّ.
تعتبر المقاومة الصِرفة في وجه الصعوبات الشعورية مفتاحًا أساسيًا للإبداع. خصوصًا أن المبدعين غالبًا ما تواجههم فكرة التعامل مع الرفض الاعتيادي، خارجيًا وداخليًا على السواء، لطريقة تفكيرهم المختلفة. وللبعض منهم، يمكن أن يؤدي هذا للإحساس بعدم الرضا التام عن النفس إلى الركود الإبداعي في النهاية. وبالنسبة لآخرين، فإن القدرة على تحمّل الرفض المتكرر والتساؤل الذاتي يمكنها أن تطلق التدفق الإبداعي من مكمنه.
تعطينا الأبحاث العلمية الحديثة (التي أجريت على العلاقة بين الشعور والإبداع) مفاتيح أكثر للفهم: عندما تكون المشاعر السلبية قوية، فإنها تلجأ لإعاقة الإبداع (كإعاقتها للتحفيز والتركيز وغيرهما)، لكن عندما تكون معتدلة فحسب، فترتبط الأمزجة السيئة (مثل الأمزجة الجيدة) بالإبداع المتزايد. يؤدي بنا الشعور بالسوء لاتباع طريقة تفكير نقدية/ تحليلية، الأمر الذي يساعدنا على رؤية ما إذا كانت إستراتيجية معينة غير نافعة وبحاجة للمراجعة.
وطبقًا لمسار آخر من الأبحاث، فيمكن لشعورنا بالتحسن أو بالسوء أن يكون أقل أهمية للإبداع، أقل مما إذا كان هذا الشعور آتيًا بقدر متصاعد من التحفيز أم لا. وعلى هذا، فإن زيادة الإبداع غالبًا ما تقع عند الشعور بعواطف مستثارة، مثل الغضب أو الأذية (أو الحماسة)، وتقل تلك الفرص عند الشعور بعواطف أقل إثارة، مثل الإحباط (أو الاسترخاء).
هناك أيضًا أبحاث تفترض أن الناس يصبحون أكثر إبداعًا حينما يستطيعون التعبير عن كلٍ من المشاعر السلبية والإيجابية، وعندما يشعرون بالدعم موجّهًا لهم ممن حولهم. وبعبارة أخرى، التمتع بحياة كثيرة المشاعر -بما في ذلك التجارب المؤلمة- داخل سياق العلاقات الجديرة بالثقة يعتبر أفضل تركيبة لرعاية الإبداع وإذكائه.
الجمال عبر المصاعب، أو تقدير الصعوبات مع غاندي وبيلي هوليداي.
لأن الجانب الشعوري المظلم قد ألهم العديد من أكثر الإبداعات الإنسانية تأثيرًا، فعلينا أن نضع في الاعتبار النتائج المحتملة قبل التفكير في منع الألم بدلاً من التواؤم معه.
مرارًا وتكرارًا، نرى الجمال يتشكّل خارجًا من الأذى. هل بإمكان أحد تخيّل شكل الموسيقى الحديثة إذا لم يكن بها نوع “البلوز”؟ فربما لم يكن من الممكن نشوء أي أغنية أو نوع موسيقي له جذور في البلوز، مثل الجاز والروك آن رول والبانك والبوب والفانك والهيب هوب، وذلك في عالم ألدوسهكسلي الخالي من الأبعاد.
للموسيقى الأمريكية جذور في الألم النفسي وغياب العدالة، مع أمثلة لا تنتهي للإبداعات العظيمة بالرغم من -أو ربما بسبب- المصاعب. نشأت بيلي هوليداي في أقصى درجات الفقر، وعانت من العنصرية والاضطهاد الجنسي خلال حياتها، تلك التجارب التي شكّلت عمق أدائها الصوتي وعززته.
هل علاقتك بموسيقى البلوز بحاجة لإعادة النظر؟ إذا كنت تسعى بلا طائل للهروب من ألم المشاعر أو الحدّ منه، فهل ستكون فكرة أفضل أن تمتلكه وتختبره وتوظفه؟
وماذا عن خطوك للأمام للتعلم كيف تحب الصعاب، كما يشجعك ريلكه؟ هل هذا الشيء ممكن؟
قبل أن تحاول الإجابة على هذا السؤال الضخم، ضع القصة التالية في اعتبارك، والتي حكاها غاندي الذي ربما قام بأكثر مما قام به أي شخص آخر بمفرده في سبيل خلق طريقة جديدة للتقدم السياسي. كانت أفكاره الجديدة عن المقاومة باللا عنف في وجه الظلم الاجتماعي قد أدت مباشرة وبطريقة غير مباشرة أيضًا لتحسين الظروف المعيشية للمليارات حول العالم.
شرح غاندي كيف طُرد من عربات الدرجة الأولى في القطار، وأمروه أن يركب في عربة الأمتعة، وذلك بعد انتقاله إلى جنوب إفريقيا بوصفه محاميًا صغيرًا وفي طريقه للعمل بأول يوم. ولم يكن غاندي الذي عاد حديثًا من لندن على وعي بأن الدرجة الأولى مخصصة للبيض فقط. وعقب شعوره الجارف بالمهانة، رفض الانصياع للأمر وتعرّض للطرد العنيف من القطار. قضى غاندي تلك الليلة الشنيعة من الشتاء على رصيف المحطة بلا معطف أو طعام.
فكّر في مشاعره عن الظلم الذي تعرّض له، عن العديد من الاحتمالات المختلفة التي يمكنه فعلها لاحقًا، وعن النتائج المحتملة لكل فِعل قد يتخذه، على نفسه وعلى الآخرين. ماذا كان سيحدث لو أنه اتبع رغبته في إيذاء محصّل القطار التالي وإلقائه من القطار؟ ربما عليه أن يترك البلاد كلها والعودة للهند؟
بالعودة لسنوات ماضية، وصف غاندي أن تلك الليلة الطويلة على رصيف المحطة باعتبارها الأكثر إبداعًا في حياته. فحينما أشرقت الشمس أخيرًا، قفز في القطار التالي واتجه مباشرة للعربة الأولى، مصممًا على المقاومة دون اللجوء للعنف.
من هنا كانت فلسفة التحركات التي ما زالت تلهم عددًا لا يُحصى من الحركات الاجتماعية حول العالم، بما في ذلك حركة الحقوق المدنية الأمريكية والربيع العربي وحركات “احتلّوا”. نمت فرضية غاندي سريعًا لتصبح أداة فعّالة للتقليل من الألم المنهجي دون التضييق على مجال أي شخص من المشاعر. ويمكننا تعقب جذور تلك الأفكار إلى عددٍ من أكثر ساعات غاندي ظلمة وإيلامًا.
المصدر: اضغط هنا