بكرة لما تبقي أم هتعرفي

248

 

حسنًا يا أمي..

أخبرتهم أني سأكتب عنك -أو بالأدق عنا- في عيد الأم الأول لي.. كأم، وها أنا أكتب فيما تنام الصغيرة بجواري وضوء خافت من الأباجورة يسمح لي بالكاد برؤية يدي وهي تتحرك على الكيبورد.

 

دعيني أُعرِّف من لا يعرف، أني أم لطفلة أتمت لتوها شهرها الخامس، ودعيني أعترف أيضًا أني لم أقع في غرامها منذ اللحظة الأولى، ولم يقذف في قلبي فيض الأمومة في اليوم الأول ولا حتى الشهر الأول.. غير أني يومًا بعد يوم يكبر في قلبي شيء واحد بلا توقف.. الرحمة، هكذا بعد طول بحث وتفكير عرفت اسمه. عندما بحثت عن تعريفها اللغوي وجدتها تعني لطف القلب ورقته، وهذا هو تحديدًا ما يحدث لي مع “نوارة”.

 

كنت وما زلت عندما أغضب لا أتذكر سوى أن أمي هي الشخص الوحيد الذي يستحق ثقتي المطلقة، وأنها الشخص الوحيد الذي سيقبلني دائمًا وأبدًا ويكون في صفي بلا أحكام أو شروط. أتذكر طفولتي، كيف كانت تتركني لشراء طلب بسيط وتقول لي، سأغيب فقط 10 دقائق، فأقضيها بالتمام والكمال أنظر للساعة، لا أستطيع أن أحوّل نظري وفكري عنها، حتى تأتي، إذا تأخرت عن الدقائق العشر دقيقة أو اثنتين شعرت أن كارثة لا بد حدثت، وأنها ربما تركتني ولن تعود أبدًا. هل كنت أشك في حبها؟ لا أعتقد. ولكن الأمان كله بالنسبة لي كان أن تكون أمي على مرمى البصر.. ومبتسمة. كبرت وعرفت أن اسمه “قلق الانفصال”، وأن نسبة كبيرة من الأطفال تعاني منه مع بداية تعرفهم على حقيقة أن أجسامهم منفصلة عن أجسام أمهاتهم، وكثيرًا ما يتزامن هذا مع دخول الحضانة، ويتجاوزونه بعد قليل، كما حدث معي.

 

لماذا تذكرت هذه الحكاية؟ لأن عيني ابنتي منذ بدأت تنتبه لي وتتعرف عليّ تتبعني في كل مكان، إذا وضعتها في مكان وكنت حولها أقضي واحدة من مهام البيت، تظل تتابعني بلا كلل أو ملل، وإذا خرجت من الغرفة، ظلت عيناها معلقة على الباب في انتظار عودتي، وإذا حملها أحدهم وتحركت أنا في الجوار، تجاهلت كل الألعاب وظلت تنظر إليّ، حتى عندما أضعها على الكنبة وأجلس بجوارها، تظل عيناها عليّ. في البداية فكرت أني سأتجاهل الأمر، ولكني بعد قليل أصبحت مصابة بمتلازمة القياس على علاقتي بأمي.

 

أسعى لطمأنة الصغيرة أني سأبقى، وإذا اختفيت خارج الغرفة سأعود، وأن صوتي سيبقى حتى إذا كنت في الشرفة مع الغسيل، عندما تتذمر من انشغالي بالموبايل أو اللابتوب أتركه، ليطمئن قلبها أنها الأهم عندي، وإذا كنا بالخارج نقضي واحدًا من مشاويري الطويلة، لا أبالي بمن حولي وأبدأ في غناء أغنيتها المفضلة. مؤخرًا بدأت أخشى من أن أكون أنا التي ستخاف بعد قليل من انفصال الصغيرة عنها، وأن حرصي الزائد على طمأنتها قد يتحول بعد قليل للعنة تلازم كلاً منا، وتصعب علينا مواصلة الحياة.

 

كنت أسمع الحديث عن الله، وكيف هو سبحانه أرحم من الوالدة بولدها، فلا يتبين عقلي المثال، هل هو الحب؟ هل المقصود أن الله يحبنا أكثر؟ لم أكن أفرّق بين الحب وهذه الرحمة المقصودة، ولماذا تُعرَّف رحمته بأنها أعظم من رحمة الأم بالذات؟!

 

لم يكن من المنطقي بالنسبة لي أن أفسر وخزة قلبي مع بكاء “نوارة” بأنه حب، ولا ضعفي أمام نظراتها التي تغريني لأحملها أو أرضعها، ولا استيقاظي في الليل أكثر من 10 مرات لأهدهد بكاءها غير المفهوم بالنسبة لي، صحيح أن الشعور بالمسؤولية والذنب كانا ولا زالا يحتلان جزءًا كبيرًا من دوافعي، إلا أن الأكبر منهما كانت موجة من الرقة تصيب صدري إذا نظرت إليها.

 

يبدو لي اليوم الجديد كل صباح عبارة عن مجموعة من الحواجز متنوعة الارتفاع، وأنه عليّ أن آخذ شهيقًا عميقًا قبل أن أبدأ في القفز بلياقة ورشاقة حتى الحاجز الأخير. أفعل هذا وأمي تملأ ذهني تمامًا، أقول إنها قفزت آلاف الحواجز من قبلي، وإنها هنا تدعمني وتقبلني، وستكون السند الأنسب إذا قررت أنه وقت مناسب للانهيار، أو حتى الدلع والراحة، أدرك أكثر من ذي قبل أن بركة دعائها تحاوطني، وأن رضاها يتصل بالسماء بلا وسيط، وأقول لنفسي إني سأكون محظوظة إذا وثقت بي ابنتي كما أثق بأمي، وأذا أحبت صحبتي كما أحب أنا صحبة أمي. منذ أسبوع في وقت المطر ألجمني الخوف من الرعد والبرق، كنت أريد أن أدعو ولكني تلعثمت، فوجدتني أقول: “اللهم احفظها لي، وأنبتها نباتًا حسنًا”، في الحقيقة كنت أقصد بـ”احفظها” أمي، وبـ”النبات الحسن” ابنتي، ولكن ارتباكي لم يسعفني، وقلت إن الله يعرف ما أقصد.. ومن أقصد.

 

ما أشعر به هنا والآن.. أني مجرد حلقة متوسطة في سلسلة طويلة لا نهائية متصلة الحلقات، أولها في السماء، ولا آخر لها، أنا مجرد حلقة تتوسط أمي وابنتي، بينما كانت أمي ذات يوم حلقة وسطية بيني وبين أمها، ومثلما ستكون ابنتي يومًا ما هذه الحلقة بيني وبين ابنتها. أي سلسلة من الرحمات هذه؟!

 

كنتِ تقولين -ليس مثلما تقول كل الأمهات- “لما تبقي أم هتعرفي”، وأنا الآن قد عرفت، وأعرف أكثر كل يوم كيف أن الله وضع من رحمته في قلوب الأمهات ليصبح هذا الكوكب مكانًا محتملاً، وتصبح الحياة عليه ممكنة.

المقالة السابقةالألم والتكوين
المقالة القادمةوصفتي السريَّة للصمود
كاتبات

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا