اكتئاب ما بعد الولادة.. متى ينتهي؟

1152

تكلمت مرارًا عن اكتئاب ما بعد الولادة، لا أعلم متى سأتوقف عن التحدث عنه، ومتى تتوقف الدموع عن الانهيار كلّما تذكرت يوم الولادة والسنة والنصف التي تلتها، أتمنى من الله أن يكون هذا عاجلاً ليس بآجل.

 

منذ فترة قصيرة سألتني صديقة عن اكتئاب ما بعد الولادة، ثم عقّبت على إجابتي بملحوظة مهمة، وهي أن كل من سألتهن عن اكتئاب ما بعد الولادة قلن إنهن لم يتخلصن منه بعد حتى بعد مرور أكثر من سنة، وأحيانًا تصل إلى 3 و5 سنوات، بينما الدراسات التي قرأتها كلها تقول إن اكتئاب ما بعد الولادة يستغرق عدة أشهر إلى سنة ولا يتخطاها، فكيف إذن نظل في حالة اكتئاب ما بعد الولادة لسنوات وسنوات؟!

 

لأريح عقل صديقتي، قررت أن أمنحها الرد الشافي على تساؤلها، ولربما يساعدنا نحن في إيجاد الحلول. أخبرك أيها الصديقة أن كل الدراسات التي قرأتِها كانت من خبرات أجنبية، حتى المكتوب باللغة العربية منها، فهو مترجم وليس من واقع حياة المصريات فعلاً. 

 

دعونا نعرف القليل عن أعراض اكتئاب ما بعد الولادة: مشاعر الحزن القوية، عدم وجود طاقة لعمل أي شيء، تغيير عادات النوم والأكل (سواء بالنقص أو بالزيادة)، مع عدم الرغبة في ممارسة الجنس. يتم تشخيص اكتئاب ما بعد الولادة عند ظهور أي من الأعراض في فترة من أسبوعين إلى شهر من الولادة (وأحيانًا تظهر أثناء الحمل) واستمرار الأعراض لمدة أسبوعين على الأقل، مع العلم أن هذا النوع من الاكتئاب يصيب الآباء في بعض الأحيان. 

 

ما يحدث في الخارج أنه عندما يتم تشخيص الأم بهذا النوع من الاكتئاب (حتى وإن لم تشخّص أو لم تعانِ منه من الأساس) فهي بنسبة كبيرة تحصل على رعاية طبية ونفسية ودعم مادي ومعنوي من المحيطين والأطباء ومن الجمعيات المختصة.

 

بينما ما يحدث هنا في مصر، أنه يتم تشخيص الأمهات مرضى الاكتئاب بالدلع والبطر، فهي ليست أول من أنجبت في العالم، هي شخصية متبطرة، بمعنى أنها تتبطر على الخلفة وعلى الأطفال بينما غيرها يتمنى “ضفر عيّل”. ما يحدث هو أن الأم المصرية لا تملك رفاهية أن تُشخّص بالاكتئاب من أطباء نفسيين محترمين، فتعيش في مراحل الاكتئاب حتى تُشفى تحت ملاحظة طبية. 

 

ما يحدث فعليًا للمصابة باكتئاب ما بعد الولادة، أنها غالبًا لا تعرف أنها مصابة به أو أن هناك أصلاً مرضًا بهذا الاسم إلا بعد مرور فترة طويلة جدًا. فنجدها مرهقة وحزينة بلا طاقة كافية لطفلها الصغير، تمتنع عن الأكل أو تأكل بشراهة، تعيش أعراض الاكتئاب كما قال الكتاب، ولكن هذا لا يهم المجتمع في شيء، هي امرأة متزوجة لديها بيت وطفل سليم ومعافى، لا يوجد أي سبب لهذا الدلع.

 

هنا في مصر لا تملك الأم ترف تحمل تبعات مرض الاكتئاب الذي يصيبها، فهي لا يمكن أن تُترك وحيدة بدون مسؤوليات ولو لمدة ساعة واحدة، لا يوجد من يزيح عنها بعض المسؤوليات لبعض الوقت. ومن رابع المستحيلات أن يتركها المجتمع في حالها بدون التعليق على شكلها وملابسها ووزنها وإرهاق بشرتها وتربيتها لأطفالها وعلاقتها بزوجها.

 

تقول الدراسات إن الأطفال قد يتأثرون باكتئاب الأم، لأنها تكون في حالة غير سويّة لتربية الأطفال وتأهيلهم، فينتج عن ذلك أطفال بمشكلات سلوكية أو نفسية، وفي الولايات المتحدة تم تسجيل العديد من جرائم قتل الأطفال على يد أمهاتهن المصابات بالاكتئاب. 

 

ترجمة هذا الكلام على الواقع المصري غير متعبة ويمكن لمسها بسهولة، لأن الأم التي لا يتم علاجها من مرضها وتضطر إلى التعايش معه، فتمارس كل أدوارها بدون طاقة، وتصبح قليلة الصبر، عالية الصوت، سريعة التعصب وكثيرة الغضب.

 

يقال إن الحياة هنا تصيبنا جميعًا بالاكتئاب رجالاً ونساءً، أمهات وآنسات، لا أستطيع إنكار ذلك مطلقًا. ولكن فلنتخيل معًا أمًا تعاني من الأصل من اكتئاب ما بعد الولادة، لا يساعدها أحد في الخروج من سجنه، تعيش معنا في هذا المناخ، إذًن هي ليست فقط مصابة باكتئاب ما بعد الولادة، ولكن أُضيف إليه اكتئاب معيشتنا في هذه البقعة الخانقة من العالم، لتدخل في دوامة اكتئاب كبيرة جدًا، لا تخرج منها بسهولة وتستمر معها لسنوات طويلة جدًا.

 

لذلك، ولكل ما سبق، تحية مني وإجلال، لكل أم مصابة بالاكتئاب لا يوجد عندها الطاقة الكافية للخروج من السرير، ولكنها تقاوم وحيدة وتقوم لتحضير أطفالها وتجهيز البيت وتفاصل مع الباعة وتسمع طلبات الأطفال وتلبيها وتعيش معهم كل تفاصيلهم الصغيرة والمرهِقة بشدة، تعيش الوحدة الداخلية رغم أنها محاطة بالأشخاص، وتتمنى فقط لو يصمتوا أو يكفوا عن طلب الأمور ولو قليلاً. قد تغضب على أطفالها وتصرخ فيهم بل وتضربهم، ثم تعود لتحضنهم وتتأسف وتلوم نفسها وتلقبها بالأم السيئة الفاشلة، ثم تعود لتحمّل نفسها فوق طاقتها لتعوض عن أطفالها غضبها عليهم.

 

هوّني على نفسك، أنتِ لست بالأم الفاشلة، ولكنك مريضة حقًا ويجب عليك طلب المساعدة النفسية والمساعدة في المهام والواجبات الأسرية، طلب المساعدة ليس ترفًا أو ترفيهًا، ولكنه أصبح واجبًا عليكِ إذا أردت تربية أطفال أصحاء نفسيًا. 

 

عزيزي الزوج.. تفضل معنا وشارك في مهام المنزل وارفع القليل من العبء عن زوجتك، ويفضّل أن تبدأ برفع عبء إلقاء اللوم وتوجيه تهمة الإهمال والنكد إليها، لو حملت نصف ما تحمله زوجتك لانهرت في اليوم الأول.

 

إلى الأهل.. نحن بالتأكيد نحبكم، ولكن من فضلكم توقفوا عن التدخل فيما لا يعنيكم، وحاولوا المساعدة حين يُطلَب منكم ذلك.

 

إلى المجتمع المحيط.. لا أجد كلمة أوجهها لك سوى “خليك في حالك والنبي!” أرجوك أرجوك أرجوك.

المقالة السابقةالحب يشفي
المقالة القادمةضحّي ولكن…

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا