ارفضوا المرض واقبلوا المريض

762

كلما زرنا خالتي لا بد أن يتطرق حديثنا عن السيدة العزباء التي تعتلي شقتها بدورين في نفس بنايتها، يلقبها صغار الحي بـ”سامية المجنونة”، نظرا لغرابة سلوكها وانعزالها عن الناس، فهي متقلبة المزاج، سريعة الانفعال، كما أن كلامها مبهم وغير مفهوم في أحيان كثيرة ووحيدة تماما، كان جيرانها بارعين في نسج الحكايات عن كيفية تحولها إلى زومبي ليلا وأن بيتها مسكون بالأشباح.

عرفت في إحدى زيارتي لخالتي فيما بعد بوفاة “سامية” منتحرة،  سكبت الكيروسين على جسدها وأشعلت النار، فهي بحسب تشخيص الطبيب المعالج لها كانت تعاني من “الاكتئاب ثنائي القطب”، وهوما أعلنه أحد أقاربها في أثناء تشييع جثمانها، وأنها أنهت حياتها في إحدى نوبات الكآبة.

يعرف مرض الاكتئاب الثنائي القطب، وهو أحد الأمراض النفسية التي تتميز (Bipolar mood)  بتناوب فترات من الكآبة مع فترات الابتهاج غير الطبيعي، والتي تختلف عن الشعور بالابتهاج الطبيعي كونها تؤدي بالشخص لقيام بأعمال طائشة وغير مسؤولة في بعض الأحيان disorder).
وقد تستمر التغيرات المزاجية المتطرفة في مرض الاكتئاب الثنائي القطب طيلة أسابيع، بل حتى بضعة أشهر كاملة، بحيث تسبب خللا في إدارة الأمور الحياتية الطبيعية لدى الأشخاص الذين يعانون منها، يطال بالطبع العائلة ودائرة الأصدقاء القريبين.

لذا لقبت سامية بالمجنونة، فهي تارة حنونة مبتسمة تقف في منتصف الطريق تجمع قطط الحي وتطعمهم “سمك التونة” بسعادة عارمة، ولا تبالي إن اشتكى جيرانها من صوت جهاز الخفق الكهربائي الساعة الثالثة بعد منتصف الليل، فهي تخبز الكيك، وتارة أخرى تبدو حزينة هزيلة تفقد أعصابها بسهولة إن دق أحدهم جرس باب شقتها دون سبب مقنع لها.

لاحقتها وصمة العار التي ترافق المرض النفسي، فأعاقت حصولها على الرعاية التي تحتاج إليها، وجعلتها تشعر بالنبذ والوحدة إذ أشار إليها الجميع بأنها مجنونة،  بل تجرأ البعض باتهامها بأن ما عانت منه سببه عدم تقربها إلى الله، وذهب البعض في تحليله إلى أنه مس من الجن لأن المرض النفسي لا يُصاب به مؤمن.

الرفض الشديد بأن يكون الشخص مصابا بمرض نفسي، قد يجعله يؤجل زيارة الطبيب النفسي لأشهر أو سنوات أو لا يزوره إطلاقا، ما يؤثر بشكل عميق على حالته وهو أمر متوغل في ثقافتنا الشرقية بشدة وله آثاره السلبية على صحة من يعانون من بعض المشاكل والاضطرابات التي يمكن علاجها بزيارة ومتابعة منتظمة.

كما ساهمت الدراما في تشويه صورة المريض النفسي وجعلته يبدو كمختل يرتدي الأقمعة البلاستيكية في رأسه والجوارب في يديه، كما نال التشويه الطبيب أيضا، وأظهره كأخرق يحتاج لمن يعالجه، فتردد كثيرون في استشارة الطبيب النفسي، خوفا من التشهير بسمعتهم.

المرض النفسى ليس عارا أو جنونا، ولكنه معاناة للنفس كما تعاني أجسادنا أحيانا كثيرة، من منا لم يشكو من ألم القولون أوالمعدة ؟ ارتفاع ضغط الدم أو اضطر لجراحة ليستكمل حياته معافى؟ فمعالجة المرض أصوب من تركه يدمر حياة الشخص.

فبعض من لجأ إلى الانتحار لم يزر طبيبا من قبل، والبعض قام بالخطوة ولم يستكمل العلاج، أو لم يكن المحيطين به على دراية ووعي بأهمية المتابعة مع طبيب مختص،  لقد لجأت الممثلة الإيطالية المصرية داليدا للانتحار، بعد أن تركت رسالة قالت فيها: “سامحوني، الحياة لم تعد محتملة بالنسبة لي”.

إن رفض المرض لا يعني رفض المريض، بل قبول المريض والوقوف بجانبه ليتخطى محنته، كما فعلت الممثلة الأمريكية كاثرين زيتا جونز، عندما عانت من مرض الاكتئاب الثنائي القطب، ودخلت مصحة عولجت منه، وخرجت تفكر في إنتاج فيلم وثائقي لرفع التوعية به.

كنت أتمنى أن تحظى “سامية” برفقة تشجعها على العلاج، وتساندها في محنتها وتقبل مرضها النفسى بدلا من وصمها وتركها وحيدة تنهي حياتها في لحظة يأس عابرة، كان بالإمكان تجاوزها بالعلاج، الله يرحمها.

المقالة السابقةالاكتئاب.. أشكاله وألوانه
المقالة القادمةلماذا تحتاج الأرواح الحساسة للطقوس؟
كاتبات

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا