حين تحولت إلى أم سيئة

1974

أمهات كسالى.. هكذا اعتدت أن أنظر لشكاوى الأمهات من التربية، باعتبارهن لا يفقهن شيئًا عنها، بينما أخبر نفسي “ولادي هيكونوا حاجة تانية”، كيف لا وأنا أقرأ الكثير، من منشورات التربية الإيجابية المجانية، عبر فيسبوك، وأشاهد مقاطع الفيديو والبرامج الخاصة بالتربية، تلك التي تضع لك مجموعة من النقاط الواضحة السهلة، وتعطيك الكتالوج للتعامل، فتظن بعدها أنك ملكت الدنيا، وأن التربية ليست سوى قطعة كيك، ستلوكها بتلذذ، فترى أولادك وقد أصبحوا عظماء وأسوياء للغاية.

اللي ع الشط عوَّام

اعتقدت أن حبي الشديد للأطفال، وقدرتي الاستثنائية على التعامل معهم، فضلاً عن قراءاتي العديدة، ستجعلني -بلا شك- أمًا عبقرية. هكذا رحت أستمع إلى أي شكوى، في مجال التربية، باعتبارها لن تحدث لي أبدًا، فأنا غير، وأولادي كذلك سيكونون غير. لكن ما أن أنجبت طفلي الأول، حتى اكتشفت أن اللي على الشط عوّام. وأن اللي إيده في المية مش زي اللي إيده في النار.

كسبت الجدال وخسرت ابنك

كان صغيري موهوبًا للغاية، في تدمير كل نظرياتي حول التربية الإيجابية. هم يخبرونك أن تُخيره، وأن تتعامل معه كشخص كبير، وتتركه يقرر، لكنهم لا يحدثونك عن كلفة اختياراته، المادية والمعنوية، وكلفة رفضك، في الحالات التي يستحيل معها القبول. يخبرونك أن الأطفال أذكياء، لكن لايقولون أن ذكاءهم بالكامل، سوف تكون أنت محوره، كيف يتحايل عليك، يجعلك تبدو أحمق طوال الوقت، تُذكِّر نفسك بالمقولة الشهيرة لا تدخل مع ابنك نقاشًا، تخرج أنت منه وقد كسبت الجدال، وخسرت ابنك. لكنك مع محاولات الصبر، والتمسك برباطة الجأش، تجد نفسك في الخلفية  تردد “للصبر حدود”.

بين ما قرأته والواقع

إنجاب طفل، ما هو إلا اختبار متواصل، بلا فواصل أو إجازات. اختبار عملي ونظري وأسئلة لا نهائية. حاولت أن أمسك بالعصا من المنتصف، طوال الوقت، حتى جاء الاختبار الأصعب، بين ما قرأته، عن ضرورة البحث عن مواهب الطفل وتنميتها، والواقع المخيب لآمالي مع صغيري.

كان قراري في البداية أنني لن أضغط عليه. لن أجبره على المذاكرة ما لم يكن يريد. الدراسة الرسمية ما هي إلا محض هراء، وأمر شكلي، والأهم هو تنميته نفسيًا وذاتيًا. كل هذا كلام نظري جميل، انهار في تلك اللحظة، حين جلست بصحبته، في نهاية عامه الأول من الحضانة، لأختبره فيما درسه طوال العام، وجف قلبي ولساني من تكراره. ليخبرني بمنتهي البراءه أنه “مش عارف حاجة”. جن جنوني، صرخت في وجهه، وبكيت، وشعرت أن ابني ضاع. رحت أشكو للجميع من صغيري، الذي يبدو بلا مستقبل، والذي حظى بتقييم ضعيف في أول سنوات دراسته، رغم كل المجهود.

تذكرت كيف اجتهدت في البحث عن مدرسة ملائمة له، كيف رحت أفكر في ضروره دخوله مبكرًا، كي أوفر له سنة من عمره في المستقبل، لكن النتيجة كانت محبطة جدًا، لا يكف ابني عن تأكيد أنه يكره المدرسة، والفصل وأصحابه، بل يؤكد لي باستمرار أنه يكره السائق الذي يوصله إلى هناك.

الحل في الرياضة

هكذا رحت أختبر قناعاتي واحدة تلو الأخرى، بالتأكيد الحل في الرياضة. ذهبت به إلى ملعب كرة القدم، حيث تصورت أن اللعب الجماعي سيُخرِج طاقته، ويجعله أكثر هدوءًا وتركيزًا، لكنني لن أنسى نظرة المدرب، حين أخبرني “ابنك مش هينفع في اللعبة دي. لا بيسمع الكلام ولا بيهتم بكلام حد”. هكذا حملت شعوري العارم بالإخفاق، وحملته إلى درس السباحة، كنت في أشهر حملي الأخيرة بشقيقته، ومع ذلك واظبت على الدرس، حتى الأسبوع الأخير قبل الولادة، على أمل أن يكون الحل في السباحة، وألمح تفوقًا لديه، إن لم يكن بالدراسة ففي الرياضة. لكن النتيجة كانت هي الأخرى كارثية. وهكذا انتقل بكراهيته المفرطة للمدرسة إلى دروس السباحة، التي لم يخُض فيها سوى ثلاث مرات، ليؤكد لي بعدها “أنا بكره حمام السباحة، وبكره المدرب، وبكره المايوه، وبكره المية”. حتى أنه بات يكره مشهد حمامات السباحة أو البحر.

في مركز تحفيظ القرآن

لم يختلف الأمر كثيرًا بالنسبة لدرس القرآن، الذي نصحني كثيرون، بأنه الحل الأمثل في حالته، حيث سيجعله أكثر هدوءًا وتركيزًا، “خديه وامشي”، هكذا أخبرتني مديرة مركز التحفيظ. لم أستوعب الجملة، قبل أن تنصحني “مش أقل من تلات سنين كمان، لما يهدا ويركز ويقدر يستوعب”. يومها أصبت فيما يشبه انهيار عصبي، ودخلت في نوبة بكاء عارمة، لم أتمالك نفسي، وأنا أشعر أن صغيري لا يعطيني أي نتائج، في أي شيء، دراسة أو رياضة أو غيرهما، وأن مجهودي في كل أشكاله يذهب سدى بلا أمل.

رحلة من الزن اللا نهائي

لن أتحدث عن نصائح عرضه على أطباء نفسيين، ومتخصصيين في تعديل السلوك، باعتباره يعاني خطبًا ما. بدأت أفقد صوابي شيئًا فشيئًا، أتخيل المستقبل معه، وهو يرفض كل وأي توجيه، ولا يتقبل مني أي مساعدة، كي يكون أفضل. كيف ستسير الأمور معه؟ إنه لا يكف عن الحركة بلا هدف، يحيل حياة من حوله جحيمًا، بكثرة الطلبات والتذمر. لا شيء يعجبه. الدجاجة في طبقه إن لم يكن شكلها مثاليًا بمقاييسه، لا تعجبه. صينية الطعام، إن لم توضع مضبوطة بشكل سيميتري معين يجن جنونه. هناك ملعقة للشوربة وأخرى للطعام العادي. قليل من كثير لطقوس صغيري الخاصة، والمستفزة أحيانًا، وعليَّ الإذعان، وإلا انطلق في رحلة من الزن اللا نهائي، على طريقة “إنك لن تستطيع معي صبرًا”، حيث لا يجدي تهديد أو وعيد، أو حتى عقاب.

طفلي يعاني مني

حتى جاء هذا اليوم، الذي مرض فيه، وارتفعت درجة حرارته بشدة، فركضنا إلى طبيبه، الدكتور وائل أبو الخير. كنت مهتمة للغاية باستطلاع رأيه حول طفلي “العوج”، حسبما اعتدت أن أصفه أخيرًا، فإذا به يخبرني “هذا طفل لا يعاني فرط حركة، ولا يعاني تشتت انتباه، ولا يعاني من شيء”. نظر إليَّ الطبيب نظرة ذات معنى، فاستنتجت بقية تشخيصه، “هذا الطفل يعاني مني أنا”.

بدأت أرى الصورة بشكل مختلف، أنا من أردت له الالتحاق المبكر بالمدرسة، أنا من أردته شخصًا متفوقًا في الدراسة، يمارس الرياضة ويتقن أمورًا كثيرة، بينما لم يتخطَ بعد الرابعة من عمره. أخبرني الدكتور وائل أنه طفل، لا يبحث سوى عن اللعب والاستمتاع، وليس عليَّ أن أضغطه وأضغط نفسي، “كل طفل له عمر معين، الدنيا بتفتح معاه، ويبدأ يتعلم كويس، وينطلق. بتختلف من طفل للتاني”، ما أعانيه إذًا ليس سوى رفض تام من “يونس”، لجدول الإنجازات الذي وضعته لأجله، هو يعاني من لائحتي، التي لا تهم أحدًا سواي، لكن أليس طفلاً وعليَّ أن أقرر عنه؟! الأمر أصعب مما ذهب إليه خيالي يومًا.

الأم السيئة التي أصبحت عليها

الواقع الآن، أنه عليَّ أن أواصل التجريب، حتى أعثر بصحبته، على ما يثير شغفه وحبه، حتى يبدع وينطلق فيه، عليَّ أن أجد الكثير من الوقت، وأجند الكثير من الجهد، والأهم الكثير جدًا جدًا من الصبر. أمور ليس لي بها قِبَل، لكن لا مناص، إن كنت أرغب حقًا في الهروب من الصورة الرهيبة، لشكل الأم السيئة التي أصبحت عليها أخيرًا، تلك التي تصرخ، وتفرض أمورًا، وتصر على رأيها، وتتهم طفلها بأنه غير طبيعي، وترغمه على ما لا يحب أو يطيق. تلك الأم التي لم أتصور أنني سأكونها يومًا، أجدني و قد تحولت إليها لا شعوريًا، مع كثير من الشعور بالذنب والتقريع الذاتي. الأمر صعب، لكنه بالتأكيد ليس مستحيلاً، والمشكلة الحقيقية أنه طفل، يحتاج أن يعيش طفولته، بصحبة من يتفهمها، لا من ينكرها عليه.

المقالة السابقةميلاد جديد
المقالة القادمةاهم تطبيقات الموبايل للفريلانسرز، تطبيقات ادارة المشاريع والوقت
كاتبة وصحفية مصرية

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا