ذات يوم، مرض صغيري “أنس” صاحب العامين. قضينا ليلتنا نتنقل بين الأطباء والصيدليات، ولكن حالته كانت لا تتحسن. فاستقر بنا الأمر في مستشفى الدمرداش. وهناك مرت ثلاث ساعات، ما بين جلسات وأشعة وتحاليل. كنت مجهدة بشدة، وقد سئمت من محاولات السيطرة على “أنس” لنجري له الجلسات. لم يخطر ببالي أن حياته في خطر، ولم أشعر إلا بقليل من القلق. ولا أعرف إن كان ذلك لأني لم أكن مدركة لخطورة الوضع، أم أنني تعمدت ذلك حتى أستطيع مواصلة هذا اليوم الطويل، أم أنها نعمة من الله ليخفف عني!
مع طلوع الصبح، أرسل الله لنا تلك الطبيبة، التي قررت ضرورة التعامل مع حالة “أنس” على الفور، وإلا سيحدث له فشل في التنفس. عندما سمعت تلك العبارة، انهارت كل محاولاتي للتوقف عن الإحساس، وسالت دموعي، وأنا أحتضن ابني على سرير الاستقبال. هل يمكن أن يكون آخر حضن؟ هل يمكن أن نُحرم من ضحكاته ولعبه وفوضاه المحببة، التي يملأ بها البيت؟ طلب مني الأطباء أن أنومه على السرير وأقوم ليتعاملوا معه.
المقاومة شرف
وفي لحظات وجدت نحو ثمانية أشخاص، ما بين أطباء وممرضين، يلتفون حول ابني. يبدو عليهم التوتر، فهم يتكلمون ويتحركون بسرعة. أراهم يضعون أجهزة في فمه وفي أنفه، والدم يسيل منه، يزودون جرعة المهدئ كلما وجدوا منه مقاومة. المقاومة شريفة يا صغيري، ولكن في هذا المقام قد تودي بحياتك.
انهمرتُ في البكاء، وكذلك فعل زوجي، الذي لم أره يبكي كهذا اليوم. لم أشعر بقلبي يعتصر بين ضلوعي كتلك الساعات، التي مرت كأنها دهر. الخوف يطعن قلبي كل لحظة، والعجز يعاونه. ابني أمامي بين الحياة والموت، وأنا لا أملك له شيئًا، سوى الدعاء والاستغاثة بالله. أنظر إليه، ثم أجدني غير قادرة على رؤيته في هذا الوضع، فأخرج، ثم أرغب في الاطمئنان عليه، وفي البقاء إلى جواره تلك الساعات أو الدقائق، التي ربما تكون الأخيرة لي معه، فأعود.
الأفكار السوداء
الأفكار السوداء تعصف برأسي، ويتمزق قلبي من الشعور بالذنب: هل أخطأنا بالبقاء هنا وعدم نقله إلى مستشفى خاص من البداية؟ هل الله يعاقبني، لأنني كنت باليومين الماضيين أشكو من كثرة حركته وعبثه بكل شيء؟ هل وجد الله أنني لا أستحق تلك النعمة، فقرر أن يسلبني إياها؟ لم أكن أعرف أنني أحبك بهذا الشكل يا “أنس”. استحضرت مقولة د. أحمد خالد توفيق -رحمه الله- عن الأطفال: “الجري وراهم أحسن من الجري بيهم”. نعم والله صدقت. وكنت أقول لنفسي: “يعمل اللي هو عاوزه، بس يرجعلنا بالسلامة”.
بين من أثبتوا دعمهم من كنت أحتاج دعمهم
بدأ من عرف من الأهل يأتون إلينا في المستشفى. جلست جدة “أنس” إلى جواره ممسكة بيده، وهو نائم على سرير الاستقبال. وعلى الناحية الأخرى، جلس الطبيب يجري له التنفس الصناعي. كانت جدته بثباتها وابتسامتها الخفيفة، والطبيب بملامحه الهادئة مطمئنًا لي، وسط عواصف المشاعر والأفكار التي كانت تجتاحني.
وقفت عمته تتابع مع الأطباء الإجراءات اللازمة. واتصل غيرهم بمعارفهم في المستشفى. نظرت حولي أبحث عن أشخاص كنت أتوقع أو أحتاج أن يكونوا أول الموجودين، ولكني لم أجدهم، فشعرت بالحزن والغضب نحوهم، ثم تحولت هذه المشاعر نحو نفسي، عندما تذكرت تلك المواقف التي كان المفترض أن أكون أنا فيها أول الموجودين، ولكن وجودي كان باهتًا.
قررت أن هذا ليس وقتًا ألوم فيه نفسي أو الآخرين. كنت واعية باحتياجي إلى الدعم، فقررت أن أطلبه ممن أحتاجه منهم. قبلت كل مشاعري، الخوف والقلق والذنب والخذلان والضعف، ولم أشعر أن هذا يتعارض مع إيماني بالله. احترمت عدم قدرتي على الرد على المكالمات الهاتفية في وقت، وعندما أصبحت لديَّ القدرة لاحقًا أخبرت من يتصلون بي أنني أسعد بتلك المكالمات.
أنس في الرعاية المركزة
سكن “أنس”، ولكن لم أكن أعلم، هل هو سكون مؤقت بفعل المهدئات أم هو سكون أبدي! لم يطمئن قلبي قليلًا، إلا عندما رأيته يقاوم مرة أخرى، عندما بدأ تأثير المهدئ يتلاشى. قرر الأطباء ضرورة حجز “أنس” بالرعاية المركزة، ومن لطف الله أنه كتب الشفاء لأحد الأطفال بالرعاية المركزة، ليدخل “أنس” مكانه. بدأ السرير يتحرك من الاستقبال إلى غرفة الرعاية، نجري معه أنا ووالده ونحن ممسكان بيده. هذا المشهد كنت أرى مثله في الأفلام والمسلسلات، ولكن هذه المرة أنا وزوجي وابني أبطاله. من المستحيل أن يكون كل هذا حقيقيًا. أشعر أنني في كابوس.
فارقناه عند باب الممر المؤدي لغرف العناية، وانتظرنا قليلاً، ثم لم نجد بدًا من الرحيل. في طريقنا إلى المنزل، توقفنا لنتناول شيئًا من الطعام. لم أجد للأكل طعمًا، كنت آكل فقط لأسد جوعي. كنت في حالة غريبة، أهدأ قليلاً، ثم فجأة أبكي، أبكي في كل وضع، وأنا أبدل ملابسي، وأنا آكل، وأنا جالسة في الميكروباص، وأنا أسير في الشارع. أبكي عجزي، أُقبِّل حذاءه الصغير، أبكي قلقي وحيرتي، وأفكر: هل سيعود إلى حضني مرة أخرى؟
أنا أستحق القبول والحب
عدت إلى صغيري في زيارة، لم تستغرق سوى ثوانٍ. رأيته من بعيد فاتحًا عينيه ويحرك أطرافه حركة واهنة. مشيت من عنده وكأن روحي قد رُدَّت إلي، فهو حي، كما شعرت أنه في حالة أحسن من التي تركته عليها. ذهبت بعدها إلى مجموعة دعم نفسي كنت ملتحقة بها. بكيت، وأخبرتهم بما حدث، وحكيت لهم عن مشاعري. استمع لي الجميع دون مقاطعة، أو تأفف أو حكم أو نصح. وبناء على طلبي التفوا حولي في حضن جماعي لن أنسى صدقه ودفئه، وشاركني رفاقي في المجموعة بخبراتهم ومشاعرهم وأفكارهم. شعرت أنني مهمة وأنني أستحق القبول والحب.
أكثر ما لمسني في مشاركاتهم أننا مختلفون، كل واحد يدعم بالطريقة التي تناسب شخصيته. جعلني هذا أسامح نفسي على من اعتقدت أنني خذلتهم، وألتمس العذر لهؤلاء الذين لم أجدهم حولي من البداية، وأمتن لكل من يقدم أي دعم مهما كان بسيطًا. وتشجعت بثناء رفاقي على قدرتي على حضور المجموعة، واقتطاع وقت لنفسي في تلك الظروف، وعلى وعيي بمشاعري واحتياجاتي، فكان ذلك مساعدًا لي على التعامل مع الموقف.
كيف سأنام و”أنس” ليس في حضني؟
عدت إلى المنزل وأنا أشعر بالونس والتشجيع والتفاؤل والاستبصار والارتياح. وفي نفس الوقت، ما زلت قلقة، كما كنت مرهقة جدًا على جميع المستويات، وبحاجة شديدة للنوم، ولكني كنت أحمل الهم، كيف سأنام و”أنس” ليس في حضني؟ كيف سأنام وأنا لا أعرف كيف حاله؟ كيف سأنام وأنا خائفة في أي وقت أن أسمع عنه ما أكره؟ ولكن من لطف الله أن ختم لنا اليوم بخبر أن “أنس” تجاوز المرحلة الحرجة. فهدأ قلبي ونمت.
الدعم من أجلِّ نعم الله علينا
في الأيام التالية، لم تتوقف المكالمات والرسائل من الأقارب والأصدقاء، يطمئنون علينا ويدعون لنا. كان هذا الدعم من أجلِّ نعم الله علينا، أنا وزوجي، ومن أكثر العوامل التي قوتنا. لم أكن أدرك أهمية وجودي مع الناس في الأزمات، ولكني من دعم الناس لي تعلمت العكس. كان يصنع معي فارقًا، أي دعم مهما كان بسيطًا، وحتى لو كان من شخص لا أعرفه. كان يصنع معي فارقًا كلام الناس الذي كنت أسميه تقليديًا من دعاء وسؤال وطمأنة وعرض للمساعدة.
كنت أفكر كيف يشعر “أنس” وقد وجد نفسه فجأة في مكان غريب، مع أشخاص لا يعرفهم؟ فيمَ يفكر عندما لا يجدنا حوله؟ أشعر بالحنين إليه، وبالإشفاق عليه من الصدمة. أصبحت أحسن حالاً، وبدأت أستشعر لطف الله الذي يحاوطنا، في تفاصيل كثيرة، كتيسير الإجراءات، والأطباء الأكفاء المحترمين، الذين التقينا بهم، والممرضة الرحيمة التي كانت تعتني بـ”أنس” في الرعاية المركزة، والمعارف الذين ساعدونا في الاطمئنان على حالته، وغير ذلك الكثير. لقد أنزل الله عليَّ صبرًا من لدنه، ولو كان قيل لي إنني سأمر بهذه التجربة لما تخيلت لحظة أنني سأطيقها.
عاد الأمور ولم أعد
مرت الأزمة بسلام، وشفى الله “أنس”، وعادت الأمور كما كانت، ولكني لم أعد كما كنت. تغيرت علاقتي ببعض الناس، الذين كنت أتجنبهم، فقد جعلتني الأزمة أرى فيهم جانبًا آخر، أظهر فيهم الضعف إنسانية، تخفيها أقنعة القوة والشدة، التي يرتدونها أغلب الوقت. وتغيرت علاقتي بالله، فصرت أكثر استشعارًا لوجود الله معي، في أبسط المواقف، وهو ما يمنحني شعورًا بالأمان والرضا. هانت باقي مشكلاتي، خصوصًا بعد ما رأيت ما يعانيه غيري، في الأيام التي أمضيتها مع “أنس” في المستشفى. وأصبحت أقول لنفسي: “الكبيرة عدت، كله هيعدي إن شاء الله”.
الموت ليس منا ببعيد
أصبحت أكثر إدراكًا لحبي لطفلَي. هل صرت أمًا مثالية؟ أبدًا. أنا كما أنا، أنتظر الوقت الذي سأختلي فيه بنفسي، وأصيح فيهما أحيانًا، وأغتاظ منهما… إلخ. كنت أتوقع ذلك، فأنا إنسان، ولكني صرت أكثر حرصًا على الاستمتاع بوقتي معهما. أُصبِّر نفسي بأن الحياة مراحل، والأفضل أن أستمتع بكل مرحلة، وأتكيف مع تحدياتها، بدلاً من الشكوى منها. في ركن مظلم داخلي يقبع خوف من تكرار ما حدث، يتجدد عندما أرى على أحدهما أي بوادر برد، يقبع خوف من الفقد، خضّة، وكأني أدرك لأول مرة أن الموت ليس منا ببعيد، وأنه يأتي فجأة.
المقال جميل جدا جدا جدا وصادق ومشاعره بتلمس القلب
شكرا يا سميحة ❤