كل ما أفكر إني في يوم من الأيام هبقى أم، ومسؤولة عن طفل، وأفكر إزاي أعلمه أحسن تعليم، وإيه أفضل مدرسة ممكن يتعلم فيها؟ ولو المدرسة دي مش مناسبة لقدراتي المادية هعمل إيه؟ وإزاي أنمّي قدراته العقلية ومهاراته الحركية في نفس الوقت؟ الصراحة بحس إني محبطة. البلد أصلًا بتواجه صعوبات كتيرة في التقدم والرقي لتدني مستوى التعليم وتأخره.
أنا مدرّسة، وعارفة طبيعة المناهج السطحية المعتمدة على الحفظ اللي بتتقدم للطلاب على طبق من فضة، وإن جزء كبير من المناهج لا يشجع على الإبداع، وإنما بيرسخ للنظام والقيم الاجتماعية والثقافية والسياسية اللي بنحاول دايمًا نرسّخها ونرسّيها من غير تفكير، زي ما قال باولو فريري: “ليس هناك تعليم محايد، فإما يكون تعليمًا للحرية، وإما يكون تعليمًا للاستعباد”.
وواضح طبعًا إن تعليمنا مش للحرية الفكرية على الإطلاق.. وبيؤكد في ثناياه ضرورة الحفاظ على النظام الحالي وتقديسه، وإزاي إن أي فكرة جديدة ممكن تؤدي للفوضى. ليه في موقف زي اللي موجود في كتاب المدرسة. “كان رجل يسير في الطريق، وكان مجموعة من الأطفال يلعبون في الطريق، فلما رأوه هربوا منه إلا واحد فتعجب الرجل منه وسأله عن سبب عدم هروبه، فأجابه لم أكن مذنبًا فأهرب منك، ولم تكن الطريق ضيقة فأوسعها لك”.
ليه بنحجب أسماء زي إن الرجل ده كان هو عمر بن الخطاب، وإن الطفل ده كان عبد الله بن الزبير بن العوام؟ (إضافة للتوضيح: على الرغم من إن سياق الموقف تاريخي وذكر اسم الرجلين يحمل في طيّه اكتمالًا للمعلومة التاريخية!). أنا قررت إني أتوقف عن التعامل بتقديس مع كتاب المدرسة قدام الطلاب.. وأخليهم يفهموا إنه مش كتاب مقدس ووارد فيه الأخطاء.. وأوصل للطلاب بشكل متعمّد إن قدراتهم العقلية أكبر بكتير من محتوى المنهج الدراسي.. يعني مثلًا كنت بتعمّد أقول قدامهم إنهم هيستفيدوا إيه لما يعرفوا إن أمير بيستيقظ من نومه نشيطًا في السابعة صباحًا.. وييجي يسأله في الامتحان “متي استيقظ أمير؟”.
والطالب هيستفيد إيه لما يعرف إن أمير بيصحى الساعة سبعة.. ولو إنت بتقيس قدرته على الحفظ والاستظهار، ففيه معلومات أهم من دي ممكن تقدمها للطالب! عشان كده كنت دايمًا بحاول أخرج عن المألوف.. يعني مثلًا فيه وحدة في سنة رابعة في كتاب العربي عن الحيوانات.. الوحدة دي شيقة جدًا للطلاب وممكن يتعلموا منها قيم حلوة أوي، بس للأسف مقدمة بأسلوب ركيك جدًا، وأسئلة الكتاب عليها مباشرة بشكل مستفز، يعني برضو بتقيس قدرته على الحفظ والاستظهار وبس.
أنا فاكرة وأنا بشرح الوحدة دي نزّلت كل الفيديوهات الوثائقية من ناشيونال جيوجرافيك، وأخدت الطلاب وطلعنا على المعمل واتفرجنا عليها، وبدأت أوضح قيم معينة عايزة أغرسها في الطلاب. يعني لما اتكلمنا على البطريق الكتاب كاتب عنه سطرين، إن له إيدين ورجلين وبيعيش في الجليد.. الفيديوهات وضّحت إن البطريق مثال رائع لمدى تضحية الآباء والأمهات من أجل أبنائهم، وإن إزاي الأب بيفضل شايل ابنه 3 شهور بين رجله لحد ما البيضة تفقس.. وبدأت أؤكد دورهم في حياتنا وواجبنا تجاههم.
قدرات الطلاب مع الوقت بتزيد ومش بيقفوا على اللي أنا بقوله وبس، وبقوا بيتنافسوا إزاي يجيبوا معلومات أنا مش عارفاها لما يروّحوا ويعملوا بحث على جوجل.. ولو أنا عارفاها بمثّل إني منبهرة جدًا بالمعلومة دي، وإنه أضافلي حاجة مهمة جدًا أنا مش عارفاها.. يقوم الطالب تزيد ثقته بنفسه ويحس إنه عمل إنجاز. يعني باختصار كنت كل ما أدي الطلاب مساحة أكبر للتفكير بنبهر بأدائهم أكتر.
أنا بعشق التدريس لأني في كل لحظة بتعلم من طلابي حاجة جديدة.. وبحب السن الصغيرة عشان عاملة زي العجينة اللي بتتشكل في إيديك.. بذرة برميها في الأرض وأشوفها بتكبر قدامي كل يوم. للأسف ده لأني مكنتش بشتغل عشان الفلوس.. ومعنديش مسؤوليات كتير، فبقدر أضيّع وقت طويل في التحضير للدروس وأنا سعيدة، وأغلب الوقت بتعامل مع التدريس على إنه هدف بحققه وبنجح فيه، فأنا سعيدة.
لكن واقع المدرس في الحقيقة غير كده خالص. المدرس هو الشخص المقهور الواقع تحت سطوة أولياء الأمور، ورقبته مغلولة بالمصاريف لأن مرتبه مش مكفيه، فيضطر يدي دروس خصوصية.. المدرس هو الشخص اللي مجابش مجموع في الثانوية العامة واتحطمت كل آماله في إنه يكون حد محترم اجتماعيًا والناس تنظر إليه نظرة احترام.. مش نظرة استهزاء.
المفروض بقى إزاي أنا أسيب ابني أو بنتي تحت رحمة شخص محاط بالضغوط، وممكن يكون ضحية لعقد اجتماعية ونفسية كتيرة. ولا أقعد أستنى أشوف ابني حظه هييجي مع مدرس عنده ضمير ورسالة ولا لأ؟! عشان كده لازم نبدأ نفكر في طرق بديلة للتعليم النظامي، طرق زي التعليم المرن أو البديل، طرق زي المونتيسوري. (واللي بدأت تنتشر على أصعدة كتير، وفي بلاد كتير، وبطرق متنوعة تناسب ظروف مجتمعات مختلفة). وده اللي هكلمكم عنه المرة الجاية.