الأمومة بين كتب التربية الحديثة وصراعات الواقع

1721

منذ حملي بطفلتي الأولى وأنا في أشد الاهتمام بتنشئتها إنسانًا سويًا سعيدًا متصالحًا مع نفسه. تسلحت بالمقالات والدورات المتخصصة و كتب التربية الحديثة. لم أكن أقرأ سوى كتب في التربية. وحتى فيسبوك كان يعج بمنشورات ومقالات التربية والأنشطة التعليمية والتعليم المنزلي… إلخ. وقلت لنفسي: “ها أنا مستعدة”، وبدأت أسعى إلى تطبيق ما قرأت بحذافيره، ولكن مواقف الحياة ليست بنفس وضوحها في الكتب.

صراعات الأمومة

أشعر بالتشوش والحيرة. أتساءل: هل أسلوبي مع أبنائي يصنع منهم إنسانًا مسؤولاً أم متصلبًا؟ هل أنا حازمة أم قاسية؟ هل أنا مرنة أم متسيبة؟ أتصرف بصرامة، فأقول لنفسي: لا بد أن أكون أكثر مرونة. أذهب إلى النقيض، فأجد الأمور تفرط من يدي. أقول: لا بد أن أكون حازمة، فأعود إلى النقيض الآخر. وهكذا أظل أتأرجح بين هذين النقيضين، لتترسخ مشاعري بالعجز والذنب والإحباط والفشل.

كثيرًا ما أجدني عالقة بين مشاعري بالغيظ والملل والإرهاق وضغوط الحياة والذكريات، وبين رغبتي في التعامل مع أبنائي بما قرأته في كتب التربية الحديثة. فأجيد ضبط نفسي أحيانًا، وفي أحيانٍ أخرى أصيح وأدفع وأضرب وأقرص. أشعر بالذنب والخزي والإحباط عندما أفعل ذلك. فليست هذه الطريقة التي تصورت أن أربي بها أبنائي. تتفاقم مشاعري فأشعر بعدم جدوى أي شيء أقوم به. كيف أكتب في التربية وكيف أيسر ورشًا للأطفال وأنا أم فاشلة؟!

المعرفة تلهبني بسياطها

تنزيل المعرفة على أرض الواقع يجلب معه كثيرًا من الحيرة والشك والتساؤلات.

فيسبوك بتصويره الانتقائي للواقع يضعني في ضغط مستمر. أشعر أنني في مقارنة وسباق مع غيري من الأمهات. المعلومات التي يزدحم بها رأسي تضع عليّ عبئًا إضافيًا. أجرد الأشياء من المتعة ومن المعنى، وأحولها إلى مهمة يجب عليَّ تنفيذها فورًا، فأفسدها. يجب ألا يقضي الطفل أمام الشاشات أكثر من ساعتين يوميًا. أعرف تلك المعلومة فأنفذها وعيني على الساعة. أتوتر وأصيح وأقع في أضرار أكبر من أضرار وقت إضافي أمام الشاشة. لا بد أن أقضي مع كل واحد من أبنائي وقتًا خاصًا، فأفعل ذلك بشكل آلي يجعله ثقيلاً عليّ وعليهم.

المعلومات التي عرفتها ولم أنفذها تقف وراء ظهري كجلاد يلهبني بسياطه. أسقط من فرط الشعور بالذنب الذي يحول بيني وبين الحياة. أخشى أن أتعلم فلا أعمل بما تعلمت، فأتراجع. أشعر بالوقت مع أبنائي يمر ثقيلاً فأهرب منهم. أنظر إلى ذاتي بنظارة مشوهة تجعلني أرى نفسي على عكس حقيقتها في الغالب.

طلب مني طبيبي أن أتوقف عن القراءة في كتب التربية الحديثة. أخبرني أنني لست بحاجة إلى مزيد من المعلومات. إنما أنا بحاجة إلى مزيد من التلقائية، والاستماع إلى إحساسي، والتواصل مع أبنائي. لا أدعو إلى نبذ التعلم، ولكني تشبعت بالمعلومات. والعلم يحتاج إلى الحكمة في تطبيقه، لأن تنزيل المعرفة على أرض الواقع يجلب معه كثيرًا من الحيرة والشك والتساؤلات.

أمومتي بين الأمنيات والواقع

في بداية رحلة الأمومة قرأت عن مساوئ التعليم المدرسي. علمت ضرورة ألا يلتحق الطفل بالحضانة قبل سن الثالثة، وأن يقضي أغلب وقته في أماكن مفتوحة. سعيت إلى تطبيق تلك المعلومات مع ابنتي. كنت أذهب بها كل يوم وآخر إلى الحدائق. أخَّرت إلحاقها بالحضانة خصوصًا أنني لم أجد لديها استعدادًا. كما سعيت لتوفير بيئة مناسبة لتعليمها خارج إطار المدرسة. عندما رزقنا بطفلنا الثاني حاولت السير على نفس النهج. اصطدمت بالواقع وبقدراتي المحدودة كإنسان. تحملت المشقة البدنية والعصبية والمادية الناتجة عن ملازمة طفلَيّ لي طوال الوقت. والنتيجة أنني كنت أجد نفسي في نهاية اليوم مستنزفة ساخطة.

اقرأ أيضًا: لماذا لا أكتُب عن الأمومة؟!

تطبيق العلم يحتاج إلى المرونة

سلمت بعد جولات كثيرة مع الواقع بأن المدرسة هي أنسب خيار الآن لنا كأسرة. ما زلت أطمح لابنتي في تجربة تعلم أفضل، وأسعى إلى ذلك. وما زلت أشعر بالحزن والعجز عندما تخبرني بأشياء تضايقها في النظام المدرسي. فيهمس الجزء الحكيم مني: لا تشعري بالذنب، لن تصنعي لها صوبة زجاجية تحميها من أي أذى. أحاول البحث معها عن حلول لما يمكن تغييره والتكيف مع ما لا يمكن تغييره. توقفت عن الخروج بالطفلين دون زوجي، حتى لو كان ذلك يقتضي مكوثنا في البيت فترات أطول.

ألحقت ابني الصغير بالحضانة عندما أتم عامًا ونصف العام. وذلك بناء على معلومة عرفتها من مصدر متخصص أنه يمكن إلحاق الطفل بالحضانة بين العام والنصف والثلاث سنوات للضرورة. اعتبرت راحتي النفسية ضرورة. لم أكن أجد وقتًا لأقوم بأعمال المنزل الأساسية وهو معي طوال الوقت، ناهيك بتخصيص وقت لنفسي. أخذت تلك الخطوة وأنا أسأل نفسي كل صباح عندما أراه يبكي: هل الأمر يستحق؟ يثبتني أن ذهابه للحضانة أتاح لي وقتًا أنتهي فيه من أعمالي وأمارس اهتماماتي، وهو ما جعلني في حالة نفسية أفضل.

تعلمت أن العلم يحتاج للمرونة في العمل به، وأنني أظلم نفسي عندما أحاول تطبيق معلومة لست جاهزة لها. تمر عليّ أيام أجرجر فيها رجلَي لأقوم فقط بالأساسيات في العمل أو العبادات أو رعاية ابنَي. أطعمهما وأكسوهما وأعطي المريض منهما العلاج، دون أن أكون قادرة على التواصل أو اللعب معهما. في تلك الأيام أسمح بساعات إضافية للشاشة. ليس هذا هو الوضع الأمثل، ولكني لو عاندت مشاعري فلن يزيد الوضع سوى سوءًا. أختار أقل الضررين، وأحاول قبول هذه المرحلة. وفي نفس الوقت أعمل على اجتيازها، بل وأطلب المساعدة لأجل ذلك، حتى أعود إلى سابق عهدي أو حتى أفضل منه.

الخطأ جزء من التعلم

ما أحتاجه ليس المعلومات، ولكن قبول الخطأ كمكون أساسي في رحلة التعلم

اكتشفت أنني كنت أكنز المعلومات على أمل أن تعصمني من الوقوع في الخطأ. وما أحتاجه ليس المعلومات، ولكن قبول الخطأ كمُكوِّن أساسي في رحلة التعلم، وفي الحياة بشكل عام. لست في حاجة الآن إلى مزيد من المعرفة. إنما أنا في حاجة إلى الجرأة على العمل، والثقة في إحساسي بعيدًا عن اللوازم التي أثقل بها كاهلي. أحتاج بدلاً من الجري على كتب التربية كلما واجهتني مشكلة، أن أبحث أولاً عن السبب والحل في علاقتي مع ابنَي. فالتربية علاقة، والعلاقات ليست كالمسائل الحسابية، والصواب والخطأ ليس مطلقًا.

في كتاباتي، صرت أميل إلى التدوين حول تجربتي الشخصية بدلاً من الاقتصار على النقل من المصادر. لا أقدم تجربتي باعتبارها الصواب المطلق، ولا باعتباري الأم الرائعة التي تتصرف بحكمة دائمًا. إنما آمل أن تنير كلماتي الطريق لأم. آمل أن تساعدها على الاستبصار والوعي. آمل أن تشعرها كلماتي بالونس، فتقول “لست أمًا سيئة، فأنا لست وحدي على أي حال”.

اقرأ أيضًا: مشاعر الذنب التي تأكل الأمهات

المقالة السابقةعام جديد ولا شيء كبير
المقالة القادمةكل ده كان ليه ؟! لماذا غناها عبد الوهاب

1 تعليق

  1. I love your blog.. very nice colors & theme. Did you create this website yourself or did you hire someone to do it for you? Plz answer back as I’m looking to create my own blog and would like to find out where u got this from. cheers

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا