بقلم: مروة محمد شاكر
هذه الأيام من كل عام، غريبة إليَّ نفسي بعض الشيء، لا أفهمها، حتى أشعر أني لا أجدها، حزينة واجمة مبتعدة عني. إنه حالها دومًا في مثل هذه الأيام، الأيام التي تنذر بانقضاء عام آخر من العمر بلا شيء. لا شيء على الإطلاق، أو هكذا تشعر نفسي. فهي بين أمرين، تتعجل مرورهم لبدء عام جديد والفوز ببداية جديدة من الحياة بفرص جديدة كثيرة قد تفلح معها هذه المرة، فتنسى بها كل القصور الذي سببته.
وفي عجلتها هذه لا تستطيع إلا أن تنظر وراءها، تتحسر وتتلوى ندمًا وألمًا، فقد ضيعت الكثير وتركت كثيرًا وراءها.
وبفقدها الكبير هذا هي لا تثق بقدرتها على إدراك ما هو آت، برغم فرحتها بالفرص الجديدة الكثيرة التي ستفوز بها خلال الأيام القادمة، وهذا هو ثاني الأمرين، “الأمل واحتمالية التعويض، فلا زال في العمر متسع، ولا زالت الروح في الجسد، ولله في ذلك حكم، فلا يفقد الأمل في الروح التي لم تزهق”.
في كل مرة كانت تحاول الشحن مجددًا بطاقة من أمل، بأنها ستتجاهل كل ما تركته وضيعته خلال السنوات الماضية، وتعد ذاتها بأن لا تكرر الفعل مرة أخرى، وهي تقوى على ذلك، فستبدأ من جديد وستدرك ما فاتها بحسن استغلال ما هو آتيها، لكن ما الجديد؟! نفس الحوار كل عام، بيني وبين نفسي، ها ذا أنا، العام كسابقه وإن منحنا الأمل فمن أين تأتينا شجاعة التمسك به حتى النهاية؟!
عالقة نفسي الآن بين هذا وذاك. أستشعرها بداخلي كرسام أقبل على لوحته وألوانه، وأمامه شيء جميل من الطبيعة، فرح به وتعلق بجماله، فقرر نقله على اللوحة بعيونه هو ونظرته المختلفة وروحه الهائمة بالجمال، وبينما هو غارق في الجمال وكيفية تطبيقه كما يراه تمامًا، فجأة يأخذه شيء من أفكاره، تجده سارحًا في خياله، شاردًا ينظر إلى الطبيعة بعينين فارغتين، كأن لا يراها. كأنه تذكر شيئًا سرق الجمال منه وأبدله منظرًا مروعًا مخيفًا محزنًا محبطًا قاتلاً للأمل والجمال الذي ملأه منذ قليل.
يشرع بالرسم، وكلما حاول التركيز فى الطبيعة أمامه وهمّ بإنعاش لوحته بالجمال الذي يراه، هناك من يسرقه إلى ذاك الشيء المخيف، فلا يجد إلا نفسه غارقة فيه، ويداه تندفعان منه، فترسم وترسم، تلوّن وتنقل بالضبط ذاك البؤس الذي يراه عن بُعد، لكنه غارق فيه تمامًا، وظل هكذا حتى تنحت الطبيعة من أمامه الآن، كأنها إحدى خيالاته التي قد تراوده قبل نومه، فيزيحها جانبًا ويشرع في نوم عميق.
هكذا تمامًا حال النفس حين تتعلق بالماضي وكل ما يحمله، فتغرق فيه، حتى يصبح ماضيها حاضرها وحاضرها هو درب من الخيال، تزيحه جانبًا وتواصل المسير، أعني الغرق.
ويستئنف لوحته، ويضع إضافاته وألوانه وقد تغير اتجاهها بالتأكيد، ويظل هكذا وهو يشعر بالإرهاق والاستنفاد والإقبال على رسمته، والشغف بكيف سيكون صنع يديه، وهو الذي دومًا ما يزداد طاقة وبهجة بعمله، وهو متلهف للجمال الذي يراه في النهاية. لكن هذا العمل خصوصًا بات ثقيلاً عليه وعلى يده “التي كانت تشعر بالطيران في سماء عالية مليئة بالنجوم في ليلة مظلمة، وهى ترسم وتنتقل بين اللوحة والألوان، ثم تنتهي وترى كم جميلاً ما صنعت“.
في هذا العمل يداه ثقيلتان عليه، روحه غير ملحقة في لوحته كما كانت تفعل معه دومًا، يشعر بتهاونها شيئًا فشيئًا، وانطفائها كلما أضاف شيئًا إلى اللوحة. قلبه يتحسر وينقبض بداخله عدة مرات، وهو يشعر بكل هذا، ومع ذلك فهو لا زال يواصل. مستمر بتحامل وعنف، وإصرار وألم، كمن يحاول أن يقتل شيئًا ما بداخله، أو يسكت صوتًا في أعماقه، أو يطرد خاطرة علقت بعقله، أو يرى أمامه شيئًا كريهًا، فيخفيه برسمته وألوانه وعنفه واستمراره.
النفس تمامًا لا تكف عن الالتفات إلى الوراء، ماذا فعلت وماذا لم تفعل، مستعينة بآلة الزمن، تتنقل بين السنين والأيام، كتقلبك بين صفحات كتاب مملة قراءته، ويضيع الوقت بلا أي متعة أو منفعة، ولكنك مصمم على الانتهاء منه. الفرص والخيبات، التيه والضياع، النجاح والفشل، الصبر والتجزع، الأمل واليأس، وكل ما رافقها في عمرها الفائت، تتنقل وتتنقل إلى الوراء، تزداد توغلاً في الظلام إلى أن تنتهي، تنتهي إلى ماذا؟! لا شيء. لا شيء كبير أمامها الآن.
فيا لهويتنا الواسعة حين نغرق أنفسنا في الماضي إلى هذا الحد!
اقرأ أيضًا: 15 فكرة مينفعش تاخديهم معاكي للسنة الجديدة