نصادق الأمومة على الحلوة والمرة

864

سموا المولود سعد الله.. وعيونه السود سعد الله“.

 

هنا بين دقات الهون النحاسي والملح المترامي إلى السقف وأغاني سبوع المولود المبهجة ستجدوننا.. النساء المتعبات المنفوخات المتورمات، متسربلات في أردية فضفاضة، ونضع مساحيق التجميل على استحياء مع الإرهاق.

أمهات صرنا، تحاوطنا الفرحة والشموع لقدوم ذلك الصغير النائم الذي حمل إلينا دنيا غير الدنيا التي تلت مجيئه، قلوبنا ترجف وتكاد تقع خوفًا في أرجلنا والأيادي تتناقله بخفة.. “من إيد لإيد يكبر ويزيد”.

مهده غُربال موضوع أرضًا ويطلبون منا أن نعبر فوق الوليد سبع مرات على دقات الهون، هكذا ستجدوننا نرفع أرديتنا قليلاً بضحكة مشرقة لنخطو فوق الصغير سبعًا بعدد عمره الضئيل.

 

**

الأولة بسم الله..

 

وفي الأولة قصة لاثنين قد تكون حبًا، قد تكون معرفة صالونية.. لتكون ما تكون القصة المنتهية بالزواج، لا نعنى بالتفاصيل التي أدت إلى الزواج، ولكن تعنينا متتالياته الدافئة. لا ندري كيف لتلك الحركات الحميمية الضبابية في وقت حدوثها، الشاردة بأوراحنا وأجسادنا في لحظات قصيرة مُخلفة وراءها سحبًا من السعادة نمتطيها بخمول قد تجعل بطوننا منتخفة وظهورنا محنية إلى الخلف، ويدللنا العالم “أصل إنتي حامل”.

 

نتفق أو نختلف.. لا شيء أروع من مظهر النساء الحوامل، لهن هالة وفي مشيتهن مرح.. لا شيء يضاهي جمال المرأة التي ينمو في جسدها طفل.. معجزة صغيرة تتشكل من نور خاص بها وبه.

نتوجع ونتقيأ ونملأ الدنيا عويلاً من عدم القدرة على النوم، ولكن رغم هذا نهدهد بطوننا ونتلمسها بحنان، ونغني.. دومًا نغني لنمهد له من أصواتنا بيتًا ونبعد القلق عن عينيه الخفيتين عنا.

 

متناقضات نحن في الحمل، نهجر الجنس قرفًا ثم نشتاقه بلهفة.. نهفو إلى المانجو ثم نتقيأ ما أن نضعه على ألسنتنا.. نلعن الهرمونات باكيات شاكيات ثم نضحك ما أن نشعر بالرفسة الخفيفة بداخلنا.

 

في الأولة.. نحن آية ومعجزة رُغم الوجع.

 

***

 

والتانية بسم الله..

 

هولد طبيعي ولا قصيري؟“.

 

تأتينا تلك اللحظة “المتلعبكة” حين ينساب الماء بين أفخاذنا ونبحث عن شنطة المولود ومفاتيح السيارة الضائعة في ذلك التوقيت بالذات، لسعات قوية في ظهورنا مع ابتهالات لله بالسلامة للصغير أولاَ ثم لأنفسنا.

كيف نتملص من أرواحنا المنهكة تحت وطأة الألم ولا نفكر سوى فيه وفي سلامته؟ حتى نحن لا ندري كيف نسحق ذواتنا أمامه بنفس راضية وعن طيب خاطر، نئن ونغيب عن الوعي في لمحات خاطفة ثم نعود بخبطة أخرى أقوى.. حلقة كبيرة ندور بها أحيانًا لبضع ساعات وأحيانًا ليوم، نخبر أنفسنا بجدية أننا لن نعيد الكرة أبدًا ما حيينا.. ثم نعيد الكرة مرة واثنتين وثلاث، وقديمًا كانوا يعيدونها بالعشر مرات فأكثر.

 

علينا الوجع يهون من أجل رؤياه، وما أن يأتينا الصغير نحتضنه بكل ذرة فينا، نضمه على جرح الطبيعية والقيصرية.. نضمه على الدمع المختلط بالبسمات، هو هنا نستنشق رائحته المميزة ونداعب أصابعه ونتفحصه بنهم.

 

في التانية.. انزلوا الجنة فصارت تحت أقدامنا.

 

***

 

وفي التالتة بسم الله..

 

ما رأيك أن تعود داخلي مرة أخرى؟“.

 

فكرة جدية تسيطر علينا طيلة ثلاثة أشهر منذ الولادة، كياننا متخم بالأسئلة المتناقضة مع قلة في النوم، تصل أحيانًا لانعدامه.. لماذا ينام كثيرًا؟ لماذا لا ينام؟

هل يكفيه اللبن؟

أتراه مُشبعًا كافيًا له؟

أين الطبيب؟

 

الأرضية مُتزعزعة من تحتنا وأدمغتنا تنفجر من الإرهاق والتعب، وإن كنا صامدات حقًا، نقطع الطريق بنجاح ساحق في النهاية ونتذكر مع مرور الوقت كيف كنا وإلى ماذا صرنا. ابتسامة منه كفيلة لسد أنوفنا عن المفاجأة التى تنتظرنا في حفاضته، نروح ونجيء نربت على ظهره حتى يتجشأ فنشعر بانتصار شديد يظهر في نبرة أصواتنا ونحن نقول له “صحة”، يسكن كل شيء ويخمد ونلمح ابتسامة هادئة على وجوهنا، وفجأة تنفصل عن كل اللحظات الفائتة دراما التوجع والندم، كانفصال اللبن من الزبد لحظة ذوبانه، وتبقى فقط الضحكات واللعب والقهقهة، ومع الذكرى تتسع الابتسامة أكثر.

 

في التالتة.. نحن الصامدات للحياة

 

***

وفي الرابعة بسم الله..

 

تا تا خطي العتبة.. تا تا واحدة واحدة“.

 

يصير كبيرًا وعلى كِبره نكبر، مساعدات داعمات ومعلمات نكون.. الحكي والمشي نُعلمه ونطعمه الحياة، لا نفلت أيدينا أبدًا من يده، نشد عليها بقوة لنمرر له الأمان.. سنكون دومًا هنا حين تتلفت عيناه باحثتين عنا، نسرد القصص ونلتقط له الصور ونهرول وراءه في كل الأنحاء نجمع ألعابه المتناثرة.. إنهاك له شقاوة محببة ودفء يغمرنا حين يفرك عينيه تعبًا ويمد ذراعه لنحمله إلى النوم.

يشتد عوده سنة تلو الأخرى.. نُقوِّم أخطاءه ونزرع معتقداتنا بداخله، نفرد بداخلنا مساحة كبيرة لأحلام تتمثل فيه هو وحده. سيصير طبيبًا.. لا مهندسًا.. بل فنانًا.. ثم نقرر أن نقوده نحو ما يبتغيه لحلمه فقط ننير له الطريق.

 

في الرابعة.. نحن هالة ينظرون إليها بانبهار.

 

***

وفي الخامسة بسم الله..

وفي السادسة بسم الله..

وفي السابعة بسم الله..

وإلى عدد لا نهائي بسم الله..

 

 

تبدأ القصة ونحن نعبر فوقهم وتكتمل ونحن نعبر فوق كل شيء من أجلهم، سنعبر فوق التعب والإنهاك وسنعبر فوق أنفسنا حتى نرى النبتة الصغيرة تكبر وتكبر.. لسنا متشابهات في التجربة، ولن تجمعنا قاعدة واحدة على أساسها نكون أمهات أفضل.

 

في النهاية كل امرأة اختبرت جوانب مختلفة من الأمومة ووجعًا مختلفًا، ولكل منا طاقة وسعة منحها الله ووزعها بمقدار معروف، لن نتفّه من اكتئاب النساء وأرواحهن المتعبة، ولن نتفّه من يحتفين كل يوم بأمومتهن الجميلة، فوراء التذمر والبكاء والفرح والسعادة قلب ينخلع على طفله لو أصابه مكروه، وعين لن تمانع في السهر من أجل راحة الصغير.

 

ليس هناك أم مثالية، حتى أن كلمة “مثالية” تبدو ممطوطة جدًا ومبالغة.

هناك أمهات تحاولن أن تكن أفضل لصغيرها، بأن تفهم مشاعرها جيدًا لتترجمها له صافية غير معكرة بالدموع أو بالإحباط، وبأن تحتويه عبر احتوائها لنفسيتها غير المستقرة أحيانًا، وسعيها المستميت للسلام الذي ينعكس على علاقتهما الأكثر تميزًا.

 

في السابعة وما يليها.. نصادق الأمومة على الحلوة والمرة.

 

 

المقالة السابقةينفع كتاب يغير حياتك؟
المقالة القادمةأكل فشيخ.. اتفضلوا معانا

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا