أيات جودت
انتشرت منذ فترة ليست بالبعيدة، كلام لأنثى مصرية ما، تقول أن من تضع ابنها صغيرًا في حضانة يجب عليها ألا تلومه عندما يكبر هو الآخر ويضعها في دارٍ للمسنين، ودارت الحرب بين مؤيدين لهذه الفكرة وبين متعجبين من هذه القسوة مبررين للأم التي تترك أطفالها في الحضانة من أجل الذهاب للعمل والبحث عن “لقمة العيش”.
حسنًا، كوني واحدة من الأمهات المتهمات ب”رمي” ابنتها في حضانة، بدون حتى وجود المبرر المجتمعي لذلك، فأنني أوافق على الجملة مثار الحديث، ولا أعتبرها إهانة رغم أن قائلتها وكل من تداولها مؤيدًا كان يريد إهانتي وكل من تشبهني بها، ففي الواقع أنا أرى الجملة والحياة بطريقة مختلفة عمّا يراها أغلبية المجتمع، وأحب أن أطلق عليها الطريقة الأكثر بساطة.
أعلم أن الجميع في مجتمعات الدول النامية يحمّل على الأبناء أكثر من طاقتهم، فيجب عليهم حمل هموم الأهالي عندما يتقدمون في العمر، وإن اشتكوا ولو قليلًا فإن الاتهامات بالعقوق جاهزة مع الكثير من غرس عقدة الذنب في النفوس، وكأن ليس من حق الأبناء أن يعيشوا حياة طبيعية، ويجب عليهم طوال حياتهم دفع ثمن وجودهم في الدنيا لآبائهم.
لا أعرف لماذا يتم تحميل الأبناء بهذه الأحمال، لم يطلب أي شخص في هذا العالم أن يولد، وإنما وُلد نتيجة رغبة من الأب والأم، سواء كانت رغبة في الحصول على أبناء أو رغبة في الحصول على المتعة وجاء الأبناء كنتيجة جانبية، في كل الأحوال الابن لا يد له في وجوده، ولا يجب عليه طوال الوقت أن يدفع ثمن هذا الأمر، بل على العكس يجب على الأهالي طوال الوقت أن يوفروا سبل الراحة والرعاية لأبنائهم، أن يهتموا حقًا بتربيتهم التربية السليمة، ودفعهم لإيجاد مسارهم في الحياة بدلًا من الضغط عليهم كي يعيشوا حياة ليست حياتهم.
عندما أنظر لابنتي، أدعي الله ألّا أحمّلها أكثر من طاقتها، ألا أسقط إحباطاتي عليها وأطلب منها أن تنجح فيما فشلت أنا في تحقيقه، أتمنى أن أستطيع كبح نفسي من أن أكون أمًا تبالغ في حماية ابنتها فأمنعها من خوض تجاربها الشخصية، وألا أكون السبب في إحباطها في يوم من الأيام.
لذا بالتأكيد، لا أريد أن أكون حملا أو عبئًا على طفلتي عندما تكبر، يقولون أن الأبناء الأبرار لا يودعون آبائهم في دور لرعاية المسنين، إذًا من المفترض أن أعاقب ابنتي لكوني أنجبتها دون حول منها ولا قوة! إن كان لديها حياتها الخاصة التي لا يمكن لي أن أظل فيها بشكل دائم في منزلها، لماذا أحب أن أراها تعاني بهذا الشكل.
تريد صاحبة الجملة المذكورة أن تعاقبني بأن تودعني ابنتي في دور لرعاية المسنين، حسنًا أنا أرجو من ابنتي إن أصبحت يومًا أحتاج للرعاية اليومية من الآخرين، أرجوكي أن تضعيني في واحدة من هذه الدور، أو اتفقي مع جليسة لتظل معي طوال اليوم، لا تربطي نفسك معي واذهبي لتعيشي حياتك، فقط راعي أن تكون الدار جيدة وأنني سأستمتع هناك برفقة أصدقاء رائعين، وراعي أن تكون هذه الدار بها العديد من الأنشطة، كما راعيت أنا كل هذه الاشتراطات حين كنت أبحث عن حضانة لتستضيفك يوميًا، وخرجتي منها طفلة ذكية ورائعة وموهوبة ومحاطة بالأصدقاء.
هذا ليس كلامًا غاضبًا أو وليدًا اللحظة، أنا أتمنى هذا بالفعل، أتمنى أن أكون مع من هم في مثل عمري، لا أشعر أنني عبئًا ولا بكوني عثرة في طريق طفلتي الكبيرة، التي لا ذنب لها على الإطلاق في كوني والدتها المريضة المحتاجة للعناية. أريد أن تظل العلاقة بيننا لطيفة وقوية في آن واحد، ولا تشعر للحظة بالضيق مني.
أيهما أفضل بالنسبة لي، أن أعيش مع أسرة ابنتي التي لا يمكنها أن تحيا بطريقة طبيعية بسبب وجودي، أم أن أكون مع أصدقاء يفهمونني وأفهمهم وأقضي وقتًا مميزًا معهم، ويأتي أطفالنا ليزورونا طوال الوقت دون أن يكون لديهم شعورًا بالذنب أو الضيق والضغط. لا أعلم متى تحديدًا سيتم كسر هذا التابو المتعلق بالعناية بالأهل، والبدء في إنشاء دور رعاية للمسنين في كل ضاحية من مدن مصر بأسعار معقولة، حتى لو كانت استضافة لعدة ساعات مثلها مثل حضانات الأطفال، ألن يكون هذا حلًا مثاليًا للعديد من المشاكل.
أرجوكم فقط قبل البدء في اتهامي بأنني ذات قلب متحجر أو شخصية قاسية، لا تفكروا في أمهاتكم وآبائكم، فنحن الآن لا يوجد لدينا في مصر دار مسنين بالمواصفات التي أقولها، ولكن أريد منكم أن تفكروا في أبنائكم بطريقة عادلة ومحبة، وليست بطريقة أنا من صنعتكم وأنا من ضحيت بالكثير من أجلكم، هل من العدل فعلًا أن تحمّلوهم كل هذا العبء، إن كانت هناك خيارات أخرى جيدة بل وممتازة؟ ليس ذنب أبنائكم أنكم ضحيتم بالوظيفة المثالية أو الحياة الرائعة التي كنت تريدونها لأنفسكم، أو حتى استطعتم تحقيق ذلك بوجودهم، ليس ذنبهم على الإطلاق، وحياتكم الخاصة يجب ألّا تكون حِملهم المرهق الذي يطاردهم في طوال حياتهم، فارحموهم قليلًا.