“نحن”.. هذا الضمير الذي يضمنا في نفس الرداء، يحملنا على التأثر ببعضنا الآخر، فما يعبر عنه لسانك بعفوية أو تضمه أحرف كلماتك عن قصد، قد يُشكِّل بُعدًا جوهريًا في تكوين خبراتي، بل وتحديد وجهة اختياراتي أيضًا، ومن هنا كان لشكاوى “النيو ماميز” من الأمومة وأعبائها، تأثيرًا سلبيًا على رغبتي فيها، ليتحول من فتور بعد توهج، إلى هلع وفزع، بل ورفض تام للفكرة.
كيف يمكن لكلمة قيلت أو كُتبت بـ”مبالغة” أن تتسبب في خبرة سيئة لشيء لم تختبره بنفسك؟
سأحدِّثك عن نفسي قبل أربعة أعوام من الآن، وكيف كنت نهمة بفكرة الإنجاب، أتحدث عن أمنياتي للعام الجديد فتحتل الأمومة رأس قائمتي، أدوِّن في لحظة صفاء فيُسمع أصوات الصغار يتغنون “الكاغ” و”الأوووه” بين أحرفي، وكيف تحول ذلك كله لمجهول تُخشى عواقبه بسبب “أفورة” الشكوى من الأمومة.
أمومة سوشيال ميديا
يقول الأديب نجيب محفوظ “الشكوى هي لغة الإنسان المشتركة”. أظن -وبعض الظنون محض تصوّر- أن وصفه الموجز للشكوى بدا وكأنه جاء على خلفية مطالعته لشكاوى الأمهات على صفحات السوشيال ميديا، لا سيما من الأمومة، التي تُطرَح باعتبارها حدثًا اكتُشِف مؤخرًا، كأنه بيننا اليوم يستظل بالسماوات المفتوحة وتلفحه ألسنة السوشيال ميديا التي لا تكف عن إغراقك وإغراقي بسيل من الشكوى، فيستحيل لون الهواء الذي نتنفسه أسود قاتمًا، لا حيلة لفلاتر العالم على تنقيته، فهذه تشارك بقولها: “كان مالي ومال الخِلفة بس يا ربي؟!”، وما أن تتنفس الصعداء متأملاً في ملامح صغير تداعب شعورك بالتفاؤل، حتى يصوب التشاؤم سهامه نحوك عبر تعليق إحداهن عليها: “إنتي لسة شفتي حاجة؟!”.
100 شكوى ولا عِلة
تقول الكاتبة إليف شفاق في رواية “حليب أسود”: “لقد أعادَ جان بول سارتر جذرَ العنصريّة والخوف من الغرباء إلى الحسد، بمعنى أنكِ لو أنجبتِ طفلًاً، ستظلّين في حسَد دائمٍ من النساء اللائي لم يُنجبن ووضعن كامل تركيزهن في أعمالهن الإبداعية. وفي المقابل، لو اخترتِ أن تصُبّي كاملَ حياتك في مهنتك، فستحسدين النساء اللائي أنجبن. لا يهم أيّ درب تسلكين، ستجدين عقلك في هوسٍ دائمٍ بشأن الدرب الذي أهملتِ اختياره”، أعتقد أن هذا التبني هو السبب الخفي وراء تصدُّر تلك الرؤية التشاؤمية من الأمومة للمشهد، حتى دون إدراك الأمهات لذلك.
حدثتني صديقة لي، خاضت تجربة الأمومة قبلي، عن الأمومة، فقالت: “اوعي تكتبي عن ابنك حاجة كويسة، ولو لازم اكتبي تعبان، تاعبك أو مسهّرك مثلاً.. يا بنتي صدقيني ١٠٠ شكوى ولا علة”، فتساءلت: هل بتصدير الطاقات السلبية وحدها من بين كل ما في التجربة أستطيع حماية ابني من الحسد؟ وساقني التساؤل إلى آخر: لماذا لا أحتفظ بقبيح تجاربي وحلوها على حد سواء، بعيدًا عن الناس، ما دمت إلى هذه الدرجة أخشى الحسد وأهله؟
احتياج نفسي
أعتقد أن شكاوى الأمهات من أعباء الأمومة في ثوبها “المأڤور” ما هي إلا نتيجة لحاجة نفسية مُلحة، ولّدها العوز الشديد لتقدير المجهود الذي يبذلنه، وتثمين التضحية الكبيرة التي يقدمنها في سبيل تربية أبنائهن، لا سيما مع صغر أعمارهن وتقلص مساحة الرفاهية التي يتمتعن بها في ظل حياة الأمومة وممارساتها التي تنهك الروح قبل الجسد. تخيل معي فتاة فى العشرينيات من عمرها، شاءت الأقدار أن تصبح أمًا في هذه السن، تنام وتفيق على أصوات الصراخ، يجاور وسادتها إحدى الحفاضات المتسخة، ويعلن منبه هاتفها عن موعد إعطاء الدواء لصغيرها، بينما ترى زميلاتها وصديقاتها ممن تنتمين إلى نفس المرحلة العمرية وهُن يستكملن خطواتهن في الحياة العملية وما تحويه من متنفس لإثبات الذات والترفيه عنها في الوقت نفسه، ثم تعود إلى حالها وقد تعرّت تمامًا من أي مساعدة أو دعم أو حتى كلمة ثناء من المحيطين، في الحقيقة أن مجرد تخيل حالتها يدعو للحنق، ليس فقط تكاثر الشكوى.
حياة بلا عقبات وأمومة سهلة
الفتاة جزء من مجتمع، يسعى جزء كبير من أفراده بدأب شديد نحو “الأنتخة”، وفي الوقت نفسه يحلم برغد الحياة ورفاهيتها، وكذلك هي أيضًا.
الفتاة التي كانت -على بعد خطوات مما نقف- تحلم بالفستان الأبيض والفارس الأوحد والحياة الحالمة، لم تكن لتتسع إحدى حدقتيها لترى بُعدًا مغيبًا في المشهد، حيث حياة بها بعض عثرات وتحديات في حاجة للمثابرة والتفهم، أصبحت الآن أمًا غير قادرة على التكيف مع فكرة المعاناة أو التضحية، حتى لو كانت هذه التضحية لابنها. صحيح هي لم تدرك بعد كونها أصبحت أمًا، فقد كان جل ما يشغلها منذ عرفت بالحمل هو: هل سيرث مولودها عنها لون الشعر الكستنائي؟ وكيف ستكون هيئتها في حفل السبوع؟
قال لي صديق -قضى أكثر من نصف عمره في فرنسا- إنه يتعجب كثيرًا من رغبة شباب هذا الجيل (جيلنا) المُلِحة في الراحة والنوم، متسائلاً: “لو دلوقتي مش عاوزين يتعبوا في الشغل والإنجاب والتربية، وكل اللي شاغلهم الراحة، لما يوصلوا للخمسين والستين هيعملوا إيه؟!”، مُشبهًا مرحلة الشباب بشعلة النار التي تُطهى عليها الالتزامات المهنية والمسؤوليات الاجتماعية وبمرور الوقت تستحيل رمادًا، لا يغريه شيء سوى الراحة. بالمناسبة ما قاله كان سببًا في اتخاذي لقرار مصيري في حياتي، فالحياة تحتاج لمثل هذه النيران لتمضي ونمضي معها، علَّنا نصل لوجهتنا التي أردنا قبل أن نصير رمادًا.
من قلب المعمعة
أكتب هذا المقال ولم يمر على انضمامي لقطار الأمومة أكثر من أربعة أشهر. قالوا لي إنها الأصعب، وما زال القطار بي يمضي، يدهس عقباتي تارة ويدهسني شخصيًا تارة أخرى، لكنني قررت منذ البداية ألا تكون الشكوى عنوانًا لأمومتي، وبمرور الوقت ومعه خطوات أمومتي أشعر أن قراري الاستباقي كان صائبًا، فالأمومة ورغم ثقل أعبائها وصعوبتها لكن الجائزة جد كبرى، فالكف الصغيرة التي أضمها بين أصابعي الضخمة الآن هي لي كُليًا، أنا المسؤولة عن صلاحها أو فسادها، هي مشروعي الخاص وهدفي الذي بتحقيقه أكون قد تحقّقت كما لم أتحقق في شيء من قبل، جائزتي الكبرى هي ذلك الأمان الوافر، الذي أستأثر به لسكينتي المضطربة وتلك الابتسامة الاستثنائية التي تشعرني أن الشمس والقمر يأتيان صباحًا ومساء لي وحدي، فهل تستحق الأمومة بكل ما هي عليه منا -نحن معشر الأمهات- كل هذه الشكوى و”الأفورة”؟