عندما رحلت طنط هويدا

1133

كتبت-إنجى الطوخي:

نوال: هتخنقني. هتموتني يا هاني.

هاني: هو الحب بيموِّت يا ماما؟!

نوال: لا يا حبيبي.

حوار بين فاتن حمامة ووجدي العربي من فيلم “نهر الحب”.

 

***

“طنط هويدا قررت الرحيل”.

كان هو الخبر الذي أخبرتني به أمي وهي حزينة، فـ”طنط هويدا” جارتنا منذ ما يقرب من خمسة وثلاثين عامًا، وظلت مع عائلتها الصغيرة خير أنيس لنا في المنطقة، وكان خبر انفصالها عن زوجها ورحيلها بشكل نهائي مع أبنائها أمرًا مؤلمًا يحمل في طيَّاته الكثير من قسوة الحياة.

 

سيطر انفعال الدهشة وعدم التصديق على الحال التي تتبدل بين يوم وليلة، إلا أنه سرعان ما اختفى، ليحل محله فضول عن سبب رحيل تلك السيدة الجميلة ذات العين الخضراء والشعر البني الكثيف. فقد كان الجميع يتغنَّى بجمال أسرتها والحب الواضح بين أفرادها، لدرجة تسمية بيتها مجازًا “عش العصافير”.

 

بعد أيام جاء الجواب..

“طنط هويدا” اختارت الرحيل، عندما وجدت الحب قد هجر زواجها ولم يبقَ منه سوى الواجب والالتزام. ولم تتحمل أن تبني حياتها على أساس مزيف متنكر في شكل سعادة هانئة، والسبب تجنب حكاوي الناس إذا عرفوا أنها صارت مطلقة في الـ51 من عمرها.

 

رفضت “طنط هويدا” أن تتصنع كلمات الحب الكاذبة، فتعيش في انفصام. وبكبرياء شديد رحلت مع أبنائها الكبار، بعد أن أدركت أن ما ستقدمه لهم ليس حبًا، بل أذى نفسيًا قد يغير فكرتهم عن الحب والزواج. لم تلقِ بالاً بالكلمات أو النظرات العابثة التي تعتقد بحقها في رسم حياة الناس وفق عادات وتقاليد بالية.

 

أدركت “طنط هويدا” بفطرتها كل ذلك دون أن تنبس بكلمة، دون أن تقول ببساطة إن الحب أحيانًا يقتل.

 

***

– هو الطفل الأول؟

– آه.

– حاولي تخرجوا كتير ويشوف ناس مختلفة.

هكذا أخبرني الطبيب أن سبب تأخر النطق عند ابني هو عدم اختلاطه بالكثير من الناس.

 

كان الحل أن أزور أقاربنا وأصدقاءنا كثيرًا، ولكن الأمر لم يكن بتلك السهولة التي يبدو عليها، فالخروج كثيرًا سيقلل بالطبع من الوقت الذي أقضيه معه بمفردنا.

منذ هذه اللحظة صار القلق صديقي الجديد، بأسئلة تبدأ بـ”ماذا لو حدث له أي مكروه؟ تعرض للأذى النفسي؟ سخر منه أحد؟ أصابه عدوى من أحد الأطفال؟ غيرها من الأسئلة التي لا تنتهي.

 

لكن الحقيقة أن بداخلي كان هناك سؤال آخر لا أريد الالتفات له، هو “ماذا لو أحب الآخرين أكثر مني بسبب قلة الوقت الذي نقضيه معًا؟”. يبدو سؤالاً غريبًا، ولكن في عُرف الأمهات أحيانًا يبدو منطقيًا.

 

ولكن بعدها أدركت مباشرة أنني في بداية مرحلة الخطر، فحبي لطفلي سوف يتحول إلى قيد يعزله عن الآخرين، بل قد يتسبب في عدم نموه اجتماعيًا ونفسيًا بشكل سوي.

 

قاومت نفسي تدريجيًا، وأنا أستوعب مبدأ غاب عن ذهني أن هناك أنواعًا للحب، ومنها الحب الذي يقتل، وفيه نسلب من نحب مفاتيح الحياة واحدة تلو الأخرى بدافع الحب. وأنني بكل بساطة كدت أصبح التطبيق الحي للمثل القائل “الدبة التي قتلت صاحبها” في حبي لطفلي الصغير، وأنا أعتقد أنني أحمي حبي له، وأنا في الحقيقة أسلبه حقه في حياة طبيعية.

***

بعد 8 سنوات، كانت شخصية أخرى تمامًا، تبدو الواقعية الشديدة في تصرفاتها وشخصيتها، كان الكل يشيد بحكمتها الهائلة، وعقلها الراجح. فتنظر لي وتبتسم وبإيماءة خفيفة من رأسها. أفهم منها أنها تشير إلى ألم الحب القاتل، الذي يغير النفوس ويعيد تشكيلها من جديد، بعد أن يسرق أهم مكوناتها العفوية والانطلاق والحلم.

 

لقد كانت شخصية جريئة منطلقة، تسعى لتحقيق أحلامها دون خوف، وعندما رآها أعجب بها وبتفكيرها السابق لسنها، ولم ينتظر سوى بضعة أيام ليخبرها أنه سيتزوج بها.

 

ومنذ هذه اللحظة ولمدة 8 سنوات كاملة، لم يتوقف عن هدم أحجار قلبها وشخصيتها حجرًا حجرًا، مرة بالضغط ومرة بالهجر ومرة بالرغبة في إتمام الزواج وفق ما يقتضيه المجتمع، وسلاحه هو الحب.

 

كانت عندما تروي لي فصلاً جديدًا في تطور قصة حبها، تخبرني أن المشكلة أنه لا يدرك ما يفعله بها، بتردده وخوفه الدائم من المجتمع أو حتى التقاليد التي تربَّى عليها، بل يرى أن ما يطلبه حبًا.

ورغم كل التضحيات التي قدمتها، فإن قصة حبهما انتهت، دون أن ترى يدها خاتم الارتباط.

 

والنتيجة فتاة أخرى أغلقت وريقات حياتها بعيدًا عن أي ضياء، بعد أن كانت مثل زهر عباد الشمس، تسعى خلف نور الشمس أينما كان. فتاة تعيش في فقاعة زجاجية من العلم والعمل، بعد أن مسحت حلمها الأزلي بأن تكون زوجة وأمًا لأطفال يملؤون البيت سعادة من ذاكرتها إلى الأبد.

والسبب هو الحب الذي تحول إلى أداة لقتل معاني الحياة فيها.

 

***

يبدو الآن أن رد فاتن حمامة على وجدي العربي غير منصف، والإجابة هي أن الحب أحيانًا يقتل.

فالحب مثل القمر كما له جانب مشرق، له جانب آخر مظلم، إذا أطل على حياتنا وقتها يتبدل من خيط حريري ناعم لا انفصام له، يربطنا بأحبائنا ما دامت الحياة، إلى حبل أسود غليظ يشنق به المحب نفسه أو أحباءه بلا هوادة أو رحمة.

 

وأحيانًا كثيرة نعتقد أننا نحمي من نحب، بل أحيانًا نعتقد أن ما نقدمه حب خالص، ونحن في الحقيقة لا نفعل شيئًا سوى قتل هذا الحب.

يحدث هذا عندما لا نُقدِّر قيمة الحب الذي نملكه، فنتعامل معه باستهتار.

عندما لا ندرك المغزى الحقيقي لوجوده في حياتنا من سند ودعم وراحة وسعادة في حضن الشريك، سواء كان زوجًا، حبيبًا، أبًا، أمًا، أخًا، صديقًا، ابنًا.

 

عندما لا نهتم برعايته، فنتعامل معه على أنه أمر مُسلَّم به، موجود دومًا. عندما نستخدم أدوات خاطئة في غذائه وسقايته، فلا نُقيِّم دورنا في هذا الحب كل فترة، وما يحتاجه حقًا منا، وما يحتاجه شريكنا، وما نحن بحاجة إليه دون لوم أو أذى أو إساءة.

 

وأحيانًا عندما نستخدمه كأداة لتحقيق مآرب أخرى، أو بمعنى آخر يصبح وسيلة وليس غاية في حد ذاته.

وقتها يتحول الحب إلى أداة قتل بطيء، ينجو منها البعض، والبعض الآخر تصيبه بجروح، ومنها من تقتله، فيحيا كالميت. وبدلاً من أن نزهر في ظله، نصبح مثل الأرض الجرداء البور.

 

لذا قبل أن نقول إننا نحب، علينا التأكد أننا نفهم معنى الحب حقًا، أو كما قال الكاتب الأمريكي “ميتشيل البوم”: “إن أهم شيء في الحياة هو أن نتعلم كيفية إعطاء الحب، وبعدها نسمح للحب بالدخول في حياتنا”.

 

ماذا لو أحب الآخرين أكثر مني؟!

 

المقالة السابقةإلى ابنتي
المقالة القادمةعزيزي.. أنت لا تعرف نفسك
كاتبة وصحفية مصرية

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا