عزيزي.. أنت لا تعرف نفسك

1325

 

بقلم/ سمر صبري

 

– أنا عارف أنا بعمل إيه كويس.

– والله ما حد بيقلب الدنيا على دماغه غير اللي بيقول كده.

أستعيد المشهد من طفولتي البعيدة وقت أن كنت أنا أو أحد إخوتي نردد تلك الجملة بمنتهى الثقة، على مسامع أمي حينما تحذرنا من شيء ما، لنخبرها أننا خبراء فيما نفعل، فترد هي الأخرى بثقة مضادة لتؤكد أن المتباهي دومًا بصواب ما يفعل ما هو إلا مجرد أحمق.

 

مرت بنا السنوات أنا وإخوتي، وخَفُت نجم تلك العبارة، مع توديعنا لمرحلتي الطفولة والمراهقة، فلم نعد نرددها. جفت حروفها فوق ألسنتنا، لأننا أدركنا بعد أن اشتبكنا مع الحياة أن ما نجهله يفوق أضعاف ما نعرفه.. حتى عن أنفسنا!

ربما حقيقي ما يقال بأن كلما ازدادت معرفة الإنسان تيقن أنه لا يعرف شيئًا، وأن فقط الحمقى واثقون جدًا.

 

تبدَّل المشهد من طفولتي إلى شبابي، إذ وجدتني أجلس وأنا فتاة تجاوزت الثلاثين بجوار صديقتي، مُثقلة ببعض الضغوط، أخبرها تفاصيل مشكلة ما أواجهها، فأسرد أنا ما يزعجني، وتسمع هي باهتمام، ثم تخبرني عن رأيها فيما أخطأت فيه، أرد ببعض الكلمات مؤمِّنة على كلامها: “عندك حق، ومش عارفة ليه عملت كده”، اندهشت لوهلة وأنا أتلفظ الجملة، فأنا التي قد فعلت.. وأنا أيضًا التي تجهل سبب ما فعلته!

 

انتهت الجلسة وأنا وصديقتي متفقتين أن الإنسان يكتشف نفسه على مهل بمرور التجارب والخبرات، فرغم أنني ظننت في نفسي -نظريًا- استحالة التصرُف بصورة مماثلة، كنت عمليًا أتصرف عكس ما ظننته في نفسي، وتحت وطأة الخوف كنت أبعد بالمشوار عن شيء طالما تمنيته.. لم أكن أعرف عني هذا، ولم أكن أعرف في نفسي تصالحها لتعترف بهذا، لكن يطمئنني دومًا أن يضع المرء يده على مشكلته، أطمئن لأن لا تعافي بلا تشخيص للمشكلة أولاً.

 

ما أدركته مع التقدم سنًا أن المهم أن يجاهد المرء ليقترب من جملة “أنا عارف نفسي كويس”، لا أن يُسلِّم بأنه يعرف نفسه تمام المعرفة، وأن يقتنع أن تلك المعرفة عملية ديناميكية.. مستمرة.. قابلة للإحلال والتبديل، صحيح أن الخطوط العريضة للإنسان تظل ثابتة كالمبادئ والقيم، إلا أن أفكاره تظل قابلة للخضوع للمراجعات، ولا يُعَد ذلك تَلوُّنًا أبدًا، وإنما مرونة ونضج يدفعانا إلى تفنيد ما يحدث حولنا ومراجعته، أو قد تجبرنا الحياة على التغيير لصدمة أو خذلان فنتغير تغيُّر المضطر لنوائم قسوة الحياة، أيًا كان السبب فالتغيير سُنَّة النفوس، وألا يتغير الإنسان معناه أنه جامد الفكر ومتجمد في مكانه.

 

نتغير ببساطة على مر أعمارنا، فأندهش في كل مرة أناقش شخصًا ذا نظرة أحادية للأمور، ظنًا منه أنه يمتلك “كتالوج” كل شيء، ويبدو واثقًا تلك الثقة التي تقارب الغرور الأحمق، وأتخيلني أخبره: يا عزيزي.. أنت لا تعرف نفسك كما تظن، لأننا في رحلة استكشاف دائمة لأنفسنا، سنة عن سنة وموقف بعد موقف يزداد تعرفنا على دواخلنا.. ما نحبه وما نكرهه، ما نريده وما نتمنى أن يفصل بيننا وبينه بلدان، كيف نستجيب للمواقف المختلفة، ومتى تستعصى على أذهاننا كل طرق الخلاص، ورغم أننا نعرف أنفسنا بشكل أفضل مع الوقت، فإنها دومًا معرفة منقوصة، لأنه كما يصل أي باحث للنتيجة النهائية في نهاية بحثه، نصل أيضًا لتمام معرفة نفوسنا في النهاية وحسب.. عند لقاء الله.

 

أما على طول الرحلة فعرض اكتشاف النفس مستمر، وقد نُصدم أحيانًا بما نكتشفه، فهنا تُفاجأ بأنك لم تستطع التصرف عكس تصورك عن نفسك، بأنك “بتجيب الخلاصة”، وهنا تكتشف أن لسانك انعقد عن الكلام رغم ظنك بأنك تمتلك ردودًا لكل الكلام كخطيب مفوَّه، وفي أحيان أخرى تكون الصدمات إيجابية، فهنا تجد أنك كنت أجرأ مما تظن، كما لو كنت تناولت حبوب الشجاعة، وهنا كنت حكيمًا للغاية فتدخلت في الوقت المناسب بالفعل المناسب، كأمهر مدير فني يجري تغييرًا ينقذ به مباراة.

 

على أي حال لم أخبر أي أحد ناقشته بذلك من قبل، فثمة جدالات لا داعي لخوضها، فأكتفي بابتسامة هادئة، ولسان حالي يردد ما قالته الست نجاة: “بكرة تعرف يا حبيبي”.

 

لكن كيف يعرف المرء نفسه؟

طالما سألت نفسي ذلك السؤال، وأظن جزءًا كبيرًا من الإجابة يكمن في أن يستمع كل منا لأفكاره.. لا أن يخرس كل الأصوات المرتبكة داخله، أن يقترب أكثر من مشاعره ليتمكن من إدارتها.. لا أن ينكرها على اختلافها.. حب.. كره.. خجل.. خذلان.. فخر.. أو غيرها. نعرف أنفسنا بالنقاش الجاد عن أفكارنا ومشاعرنا مع المقربين الحكماء، وباستخلاص الدروس من الأخطاء لا من تجاوزها وكأنها لم تكن، نعرف أنفسنا أكثر بالإقرار بأن كلاً منا كائن يتطور ويتعلم على طول الطريق، فالإقرار بالنقائص منزلة تكاد تقارب الكمال.

 

أن يعرف المرء نفسه رحلة طويلة، فكما يقول المفكر الراحل مصطفى محمود: “حكاية الفهم حكاية طويلة ومتعبة جدًا”، ومعرفة النفس كذلك حكاية طويلة، ورحلة أولى خطواتها أن يطرد الإنسان من ذهنه ظنه بأنه “عارف نفسه”، فكل ظن وهم في الغالب، فلا إجابات نهائية، ولا أحد يصل إلى أغوار نفسه بشكل كامل، ومفاجآت مواقف الحياة جديرة بأن تؤكد للمرء ذلك.

 

يشبه الأمر ما كتبه الراحل جلال أمين في كتابه “ماذا علمتني الحياة” في تشبيهه لتوثيق سيرته الذاتية، بما يفعله النحات مع قطعة الحجر التي تتشكل ملامحها بالطَرْق عليها، أما قبل أن تلمسها المطرقة فهي مجرد كتلة واحدة لا ملامح لها، تَعرَّف أمين على نفسه بالنبش في مشواره بعد أن كانت خبرته ومشواره الحياتي كالكتلة المتحجرة، وأرى أن فهمنا لأنفسنا عملية مماثلة إذا استبدلنا كتلة الحجر بدواخل نفوسنا، والمطرقة بالتجارب الحياتية، فنحن أيضًا نتشكل حينما تطرق أرواحنا التجارب.

 

أستعيد تذكري لمشهدي أنا وإخوتي في سنوات الطفولة البعيدة، في ذلك المشهد الطفولي العبثي، حينما كان كل منا يظن أنه وحده يمتلك كل الإجابات النهائية، فأحمد الله أننا نجونا من تكرار المشهد على مر السنين، وأننا صرنا متصالحين مع حقيقة أنه لا بأس بألا نعرف.. بأن نخطئ.. بأن نتخبط بحثًا عن السبيل، بأن نفقد ثقتنا أحيانًا، بأن نمارس إنسانيتنا بكل نواقصها، لا بأس بكل ذلك، لأنه بالقطع أفضل من أن يحيا المرء ويشيب بنفس عقلية الطفل العنيد الذي يردد: “أنا عارف بعمل إيه كويس”، لأنه كما قالت أمي: “والله ما حد بيقلب الدنيا على دماغه غير اللي بيقول كده”.

المقالة السابقةعندما رحلت طنط هويدا
المقالة القادمةأفضل افلام ديزني للاطفال بالعربي والانجليزي لا تفوتيها مع طفلك

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا