النصف حالة.. أسطورة البين بين

783

 

بقلم/ ياسمين أحمد مصطفى

 

أذكر أنني أثناء دراستي الجامعية، كنت مولعة بالأدب وشغوفة بالكتب، فكنت مثلاً أثناء سيري مع صديقاتي أسقط منهم سهوًا أمام أي مكتبة أو أي بائع كتب يفترش الشارع، كنت أقف كالمهووسة أقلب صفحات الكتب المتناثرة وأقرأ عناوين الفصول، شاردة تمامًا عن حقيقة أنني كنت في طريقي إلى مكان ما مع أشخاص آخرين، إلى أن تأتي إحداهن لتجذبني أو أجذبها أنا.

 

كان هذا في الماضي، أما الآن اختلف الأمر كثيرًا، تلاشى هذا الشغف بالكتب والاطلاع، تلاشى هذا الاهتمام المروع بأي شيء، وحل محله اهتمام مرضي بأطفالي، قلق دائم عليهم من الغد ومن اليوم. بشكل ما تحولت كل طاقتي البشرية للاهتمام بمتطلباتهم واحتياجاتهم المختلفة، التخطيط كله أصبح من أجلهم، والتوقف المفاجئ في مكان ما تحول ليكون من أجل ما يخصهم. البحث كله على الإنترنت أصبح عن أفضل ما يلائم الأطفال من مأكولات، وأفضل أماكن النزهة لهم، عن تصفيفات شعر جميلة للفتيات، والجهد كله أصبح مبذولاً في محاولات دائمة لتحقيق ما بحثت عنه.. حياتي كلها أنا وغيري من الأمهات أصبحت تدور حول محور الأبناء وحياتهم التي يجب أن تكون لامعة أكثر من المطلوب في الواقع.

 

الحقيقة أن كل ما نفعله الآن أصبح تقليدًا لما نراه في العالم الافتراضي، نقضى أوقاتًا مرعبة في البحث عما يفعله الآخرون ومحاولة تقليده بطريقة ما.

 

ولكن.. يبقى داخلي دائمًا في جانب خفي ذلك الجزء الصغير من الشغف تجاه الكتب، على الرغم من الانشغال اليومي بالعديد من المهام، ورؤية التغيرات الكثيرة التي طغت على اهتمامات الغير، بل ومتابعة العديد من الفاشينستات المحجبات والانبهار بفكرة أن بعضهن لا زلن جميلات رشيقات رائقات البال والخاطر، لدرجة هذا الاهتمام المروع بالملابس واللوك وجمع الحقائب والأحذية والتقاط الكثير من الصور، والظهور لايف بالكثير من الفيديوهات عديمة المحتوى تقريبًا، أتابع باهتمام لكن بصمت، أتابع وأنا عاجزة عن عدم المتابعة، وداخلي لا يزال هو أنا بالفعل دون أي تغيير لن ألتقط لنفسي الصور وأعرضها ولن أصاب بهوس اللوك الرائع.

 

كل ما يجتاحني من وقت لآخر هو الكتب وحنيني الغريب إليها.. فأصبحت أشتري الكتب حتى وأنا عاجزة عن قراءتها. أهتم بمجموعتي الخاصة من الكتب غير المقروءة. أزيل عنها الغبار أثناء تنظيف المنزل والاهتمام بألعاب أطفالي. أوبخهم إذا ما حاول أحدهم العبث بها. حالة غريبة من النصف حالة التي أصابت الجميع.. أنا ولست أنا.. أهتم بما لا كنت أتصور أنني سأهتم به، وفي ذات الوقت أحاول الحفاظ على ما تبقى من شغفي.

 

إنها أسطورة العصر.. حيث أصبح الجميع أنصاف مثقفين، أنصاف كُتَّاب، أنصاف ناجحين، أنصاف مهمين، أنصاف مهمشين، أنصاف من كل الحالات دون أن يدركوا ذلك. الكل يتصور نفسه واعيًا بما يحدث في المجال الذي يهتم به، دون وعي حقيقي بالأمور، دون إيمان بما يسعون إليه. الأمهات لا يدركن أنهن أثناء محاولتهن الدائمة لاعتصار طاقة أطفالهن في تدريب رياضي ونظام غذائي وتفوق دراسي منتظر، أن أطفالهن ليسوا بحاجة إلى كل هذا بقدر حاجتهم الى الأم الرائقة البال التي تحكي القصص وتمارس بعض الألعاب معهم في المنزل، وليس الأم المنهكة من المتطلبات اللا متناهية دون قناعة حقيقية بما يفعلونه.

 

يدهشني كثيرًا حماس بعض الأمهات وضغطهن الشديد على أطفالهن أثناء التمارين الرياضية، ضغط متواصل لا يفهمه الطفل الذي كان سعيدًا بالتمرين لأنه فرصة للعب وإخراج الطاقة، فتحول هو أيضًا إلى واجب مفروض عليه، يتوجب عليه التفوق فيه.. تداعبه قليلاً ليتحمل الألم والتعب ثم تبدأ في توبيخه إذا تقاعس أو تكاسل.

 

عقلية الأطفال لا تحتمل أسطورة البين بين التي تعيشها النساء الآن، فالنتيجة أصبحت أنصاف طفل، طفل مع عطب ما في فطرة الطفولة النقية التلقائية. أصبح الأطفال أيضًا يبحثون عن المظهر الخارجي لكل شيء، طفل يتظاهر بالسعادة في فيديو على اليوتيوب وينتظر هو الآخر التعليقات والإعجابات.. فتيات صغيرات يتقمصن شخصية الفاشينستا في مظهر شبه هزلي.. أين الطفولة في كل هذا؟ وأين الأمومة؟

 

الحقيقة أن الجميع أصبح بحاجة ماسة للخروج من فوضى المظهر التي سيطرت على كل شيء، نحن بحاجة لأن نفعل الشيء لأننا بحاجة إلى فعله سواء كان هذا الشيء خاص بنا أو بأطفالنا، نفعله فقط دون التفكير في الآخرين وفي أنماطهم وفي رأيهم. لا حاجة لجمع ألف رأي عند الرغبة في فعل أي شيء، كالذهاب إلى طبيب أو إلى السينما.. لا حاجة لكل هذا.. نحن بحاجة للعودة إلى أنفسنا.. للعودة إلى الحياة البسيطة الخالية من التعقيدات.

 

التخلص والخروج من حالة النصف حالة يبدأ منا نحن، وليس من انتقاد الغير والتعقيب على كل شيء.. سأبدأ بنفسي وأكف عن التقاط الصور لمجموعة كتبي الأنيقة المنتقاة، لأبدأ في القراءة من جديد، لإشباع رغبتي الحقيقية في القراءة.

 

كل ما نفعله الآن أصبح تقليدًا لما نراه في العالم الافتراضي

 

المقالة السابقةالسيدة كونان.. زوجة برتبة محقق
المقالة القادمةالثقة الجنسية.. مَن تتمتع بها؟ وكيف تحصلين عليها؟
مساحة حرة لمشاركات القراء

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا