بقلم: سعاد أبو غازي
في الجزء الأول من المقال، رصدت لكم حكايات العنف الجنسي ضد المرأة من حول العالم، واليوم ننتقل إلى مصر. مستعدون للصدمة؟
تعاني النساء في مصر -مثل كل نساء العالم- من العنف الجسدي واللفظي، لكن هنا توجد أزمة إضافية، أن الرأي العام قرر أن يواجه جرائم القتل ضد النساء، أو العنف ضدهن، بالصمت، كأنه تواطؤ جماعي وإرادة عامة ألا ترقى قضايا النساء، خصوصًا فيما يتعلق بالعنف، إلى أن تصبح قادرة على إثارة الرأي العام، ودفعه لإعادة النقاش، حول الإطار العام الذي يتحكم في القضية برمتها، نحن رأينا في السودان مثلاً، كيف نجح الرأي العام في تغيير مصير “نورا”، وفي روسيا، وقوف الرأي العام خلف الفتيات الثلاث قاتلات والدهن يمكن أن يغير من مسار القضية، لنتأمل فقط تلك القصص من مصر، ونرى الفرق.
“زينب” من الخصوص
زينب امرأة شابة (32 عامًا) من منطقة الخصوص بمحافظة القليوبية. قتلت “زينب” زوجها بعد مشادة بينهما، نتيجة مطالبته لها بالمعاشرة الجنسية من الدُّبُر، وعندما اعترضت هاجمها، فضربته بيد المكنسة الكهربائية ومات. قالت “زينب” إن زوجها كان منهكًا أصلاً من تعاطي المواد المخدرة.
قالت “زينب” في تحقيق النيابة، إن زوجها اعتاد أن يجبرها على معاشرتها من الدبُر، وهي كانت دائمًا ترفض لعلمها أن هذا حرام شرعًا، لكنه لم يكن يهتم باعتراضاتها، وإدمانه للمواد المخدرة جعله لا يفكر في أي شيء سوى مزاجه، ولم يكن يعنيه أي اعتبارات دينية أو أخلاقية.
في يوم الحادث قالت “زينب” إن زوجها حاول إجبارها على معاشرتها جنسيًا من الخلف، إلا أنها حاولت إقناعه بأن ذلك حرام، ولو تم سيكونا مُحرَّمين على بعضهما بعض، فرفض كلامها وضربها، وأمسكها عنوة لكى يمارس معها الجنس من الخلف، فحاولت الدفاع عن نفسها، ووجدت يد المكنسة، فضربته فمات.
يمكن أن تلاحظ أن زوجها أعتاد أن يفعل شيئًا ترفضه “زينب”، ولم يكن يقبل أسبابها، أيًّا كانت تلك الأسباب، وأنها تحملت ذلك لفترة طويلة، إلا أن تلك اللحظة التي شهدت مقتله كانت تمثل قمة اكتفائها من هذا السلوك. يمكن أن تلاحظ أيضًا أنها حاولت إقناعه بأسبابها، تحدثت معه، استخدمت تعبيرات تصورت أنها قد تجعله يتراجع، لكن لم يحدث، لم يكن أمامها إلا أن تضربه بعصا المكنسة.
لحظة من فضلك:
بعد قتل “زينب” لزوجها بعامين، أي في عام 2018، أصدرت محكمة جنايات الجيزة حكمًا بالحبس سنة (مع إيقاف التنفيذ)، بحق زوج هتك عرض زوجته بمنزل الزوجية، بأن عاشرها من دُبُرها رغمًا عنها، محدثًا بها إصابات، أثبتها تقرير الطب الشرعي. الزوج نفسه لم يمثل أمام المحكمة، كان هاربًا، وربما يكون الحكم نفسه فرصة لكي يمثل الرجل بنفسه أمام القاضي، حيث إنه لن يُسجن على جريمة هتك عرض زوجته.
“آية” من شبين الكوم
وجهت النيابة العامة تهمة القتل العمد لامرأة شابة (23 عامًا) من شبين الكوم، محافظة المنوفية، بعد أن اعترفت بقتل زوجها بـ11 طعنة نافذة في الصدر، ثم بمساعدة ابنة خالتها ألقت به بجانب طريق قريب من المنزل.
قالت “آية” في اعترافاتها أمام النيابة إنها قتلت زوجها بسبب إجباره لها على ممارسة العلاقة الزوجية رغمًا عنها، وكان يضربها إذا رفضت، وقالت أيضًا إنها سبق وطلبت منه الطلاق أكثر من مرة، لكنه رفض و”مارس كل الطرق لإذلالي لأنني تزوجته على غير رغبتي”. لم تجد “آية” أي مساعدة من أهلها، فهي بالأساس قد تزوجته بسبب إجبارهم لها على تلك الزيجة، وبعد أن رفض الطلاق مرارًا، قالت إنها لم تجد وسيلة للتخلص منه سوى بقتله.
“نوجة” من عزبة العرب بالقليوبية
قتلت “نوجة” (23 عامًا) والدها خنقًا مستخدمة طرحة حرير وحبل، وقالت في تحقيقات النيابة إنها قتلته لأنه “زوَّجني وأنا طفلة ودمر حياتي”. جيران “نوجة” قالوا لصحيفة المصري اليوم إن والدها رجل حسن السير والسلوك، ووصفوه بـ”الرجل الخّيِّر”: “كان ينفق من أمواله كل شهر على الأيتام”، لكنهم في الوقت نفسه أقروا بأن الرجل قد زوّج ابنته وهي ما زالت في الصف الثاني الإعدادي، ولم تكن وقتها تصلح للزواج، “عيلة ولا تفهم شيئًا، لكن هنا في الأرياف كله بيعمل كده”. وأنجبت “نوجة” من زوجها الذي يكبرها بنحو 15 سنة، طفلين أحدهما عمره الآن 5 سنوات.
كان والد “نوجة” يعايرها بفشلها في زواجها، وقبل الحادثة منعها من استخدام الهاتف المحمول بحجة “شكه في سلوكها”، فهربت “نوجة” إلى مرسى مطروح، وعندما عادت قررت الانتقام منه.
الحقيقة هذه بعض النماذج اخترتها لك بشكل عشوائي تمامًا، وإذا بحثت بنفسك، أو بدأت من باب الفضول تتابع أقسام الحوادث في الصحف المصرية المختلفة، يمكن لك أن تجد حالة واحدة على الأقل من عينة تلك الحالات، كل يوم.. أكرر: كل يوم. هناك حالة امرأة قتلت رجلاً لأسباب لا تختلف كثيرًا عن أسباب: “زينب” و”آية” و”نوجة”، وإذا حاولت أن تقارن بين تلك الحالات، ستجد أن القاتلة قد حاولت من قبل بطرق عدة أن تترك القتيل، بأن تطلب الطلاق، أو تلجأ للأهل، للجيران، لكن دون جدوى، فيصبح القتل هو الوسيلة الوحيدة المتاحة للتخلص منه ومن الألم النفسي الذي أذاب روح المرأة.
لماذا لا يلتفت الرأي العام في مصر لقضايا العنف ضد المرأة؟
الآن، السؤال الذي أود أن أطرحه عليك، ليس صعبًا، لكنه مُحير: لماذا لم يلتفت الرأي العام في مصر لحالة واحدة من تلك الحالات، التي تُعد عنفًا ضد النساء من مختلف الطبقات الاجتماعية، ويحاول أن يساندها مثلما حدث لحالة “نورا” في السودان مثلاً؟ ما الفرق أصلاً بين “نورا” و”زينب” و”آية” و”نوجة”؟
بالنسبة لي لا فرق، لكن للرأي العام، نساء ورجال، ربما هناك حالة من اللا مبالاة، من عدم التسامح مع فكرة القتل نفسها كوسيلة لمواجهة الخلافات الزوجية، أو أن النساء القاتلات، كلهن بنظر الرأي العام لا يستحققن التعاطف، أو لا رغبة لدينا في أن ندعم امرأة في مواجهة رجل، أو ألا نعترف بأن التعرض المستمر للإذلال والإهانة بصور مختلفة يمكن أن يؤدي إلى القتل، أو ربما نحن لم نلتفت لتلك الحالات، لم نرها، سقطت لأسباب مجهولة.
كيف تُغيرنا الصدمات؟
استمعت إلى محادثة للكاتبة والناشطة ناعومي كلاين على منصة “تيدكس” بعنوان “كيف تشعل الحوادث الصادمة شرارة التغيير”، كانت “كلاين” مهتمة بشرح كيف أن الأحداث المروعة التي يمر بها العالم/ المجتمع، أو حدوث الكوارث الكبرى يمكن أن تؤدي إلى “إفاقتنا وحثنا على التغيير والتطور، بينما يؤثر فينا بعضها قليلاً ثم نعود إلى رقادنا مجددًا”، وأضافت أن: “الحركات التي تطالب بالتغيير علموا ما يواجهونه من فقر مدقع وعدم مساواة، ولكنهم علموا بنفس الأهمية ما يسعون إليه، فقد قالوا لا كما قالوا نعم”، وأشارت ببساطة إلى معادلة تقول: حدث صادم ومخيلة مثالية وقوى حركية، هكذا نحصل على تقدم حقيقي.
إذًا ما الذي نفتقده نحن من تلك المعادلة؟ حدث صادم؟ لا؛ كل يوم هناك حدث صادم، إذًا ماذا عن المخيلة المثالية والقوى الحركية؟ أشعر أن هناك سؤالاً آخر يجب أن نسأله هنا: هل نعتبر الآن أن قتل امرأة لرجل بالأصل زوجها أو أحد أفراد أسرتها هو حدث صادم؟ يبدو لي أن الإجابة ربما تكون لا.
هل يمكن إعادة النظر في كل الأحكام بالسجن أو الإعدام بحق نساء قتلن نتيجة تعرضهن للعنف والإيذاء والإهانة؟
يمكنك أن تتعرف بنفسك هنا على مأساة مدام سماح.
هل يمكن للمجتمع أن يعيد تعريفه للقتل؟
هل يمكن للمجتمع أن يعترف مسبقًا بالقتل المعنوي قبل أن يقطع الرقبة على القتل المادي؟
هل يمكن لنا أن نجمع توقيعات لكي نلتمس فيها إعادة محاكمة تلك المرأة وغيرها من النساء اللاتي قتلن بسبب تعرضهن للظلم؟
هل يمكن معاملة هؤلاء النساء معاملة المريض النفسي أمام القانون، وهن بالفعل كذلك؟
ملحوظة ثانية: نشر موقع بي بي سي عربية خبرًا عن دراسة أجرتها جامعة برمنجهام البريطانية على نساء بريطانيات، تقول إن الناجيات من العنف المنزلي “أكثر عرضة للإصابة بأمراض نفسية خطيرة”. وأظهرت الدراسة التي شملت الفترة من عام 1995 إلى عام 2017، أن ما يقرب من نصف النساء اللاتي ذهبن إلى الطبيب يشكين من التعرض للعنف المنزلي، تبين فعلاً إصابتهن بمرض نفسي. ووجد الباحثون ضمن الحالات الباقية، أن الناجيات من سوء المعاملة المنزلية كن أكثر عرضة للإصابة بالقلق بنحو الضعف، وبالاكتئاب والفصام والاضطراب الثنائي القطب بثلاثة أضعاف.
ماذا فعلنا لمواجهة العنف ضد النساء؟
تؤمن كاتبة هذا المقال بأن العنف يؤدي إلى العنف، والسكوت عن الانتهاكات التي تتعرض لها النساء لن يلغي نتائجها، بالإضافة إلى أن استمرار المجتمع في الاستهانة بالعنف أيًّا كان نوعه ودرجته، والتغاضي عن مناقشة تأثيره، ورفض معاقبة الرجال الممارسين للعنف، وعدم إيجاد آلية لحماية النساء المعرضات للعنف، سيكون له أبلغ الأثر على حياة النساء والرجال على حد سواء. لا يمكن أن نستبعد مثلاً زيادة أعداد النساء اللاتي يلجأن إلى قتل الرجال كوسيلة للتخلص من المعاناة.
لا أعتقد أن هناك مجتمع أو دولة قد وجد حلاً جذريًا للعنف ضد النساء، لكن على الأقل كان وما زال هناك محاولات من أجل مساندة النساء اللاتي يتعرض للعنف، خصوصًا العنف المنزلي.
ملخص للجهود التي بُذلت حتى الآن من جانب الدولة والمجتمع المدني
1. أعد المجلس القومي للمرأة ما يسمى بـ”الإستراتيجية الوطنية لمكافحة العنف ضد النساء 2015- 2020″، وتضمنت هذه الإستراتيجية تحليلاً لظاهرة العنف ضد النساء، وأشارت بوضوح إلى التحديات الراهنة، منها على سبيل المثال: افتقار القانون المصري إلى تشريع شامل يواجه كل أشكال العنف ضد المرأة والفتاة، على الرغم من إعداد المجلس لمقترح قانون عام 2012، وكذلك تقديم المجتمع المدني لمقترحات لقوانين، وأيضًا افتقار السياسات الوطنية للتنسيق والشمول والتكامل بين القطاعات المختلفة لمواجهة العنف وتوفير الخدمات المناسبة.
2. في مارس من هذا العام (2019) وجه الرئيس عبد الفتاح السيسي في كلمته خلال الاحتفال بتكريم المرأة المصرية والأم المثالية، بوضع قانون جديد للأحوال الشخصية، ووجه الحكومة إلى وضع التشريعات المناسبة لحماية المرأة من كل أشكال العنف.
3. قبل هذا التاريخ بعامين، في عام 2017، شكلت عدد من المنظمات النسوية ومنظمات المجتمع المدني المهتمة بقضية العنف ضد النساء “قوة العمل من أجل قانون موحد لمناهضة العنف ضد النساء”، وأنتجت مشروع قانون يتضمن مواد تحدثت لأول مرة عن الاغتصاب الزوجي، وهي المادة رقم (40): “يعد مرتكبًا لجريمة الاغتصاب الزوجي كل من مارس العنف الممارس من قبل الشريك، وهو سلوك ضمن العلاقة الجنسية بين الزوجين يتسبب في ضرر جسدي أو جنسي أو نفسي، بما في ذلك الاعتداء الجسدي والعلاقات الجنسية القسرية والإيذاء النفسي وسلوكيات السيطرة، يعاقب بعقوبة السجن”.
بالإضافة إلى مادة (45) التي تناولت فكرة “البيوت الآمنة”، والتي تنص على: “يتم إنشاء مراكز لحماية ضحايا العنف بمؤسسات المجتمع المدني العاملة في هذا المجال، في جميع المناطق، تابعة لوزارة تعنى بالشؤون الاجتماعية أو متعاقدة معها، تكون للاحتياجات الخاصة للنساء وسهلة الوصول بالنسبة إليهن. تقدم المساندة والدعم للضحايا، من خلال: تقديم الدعم النفسي والصحي والاجتماعي/ تقديم الاستشارات القانونية المجانية/ الاستفادة من المعونة القضائية/ التدريب والمساعدة على إيجاد عمل/ توجيه إلى الخدمات/ إيجاد سكن آمن.
لقد وصلنا إلى النهاية أخيرًا
كانت رحلة طويلة حتى وصلنا إلى هذه المرحلة، كان كل هدفي خلالها هو إطلاعك على الجانب المظلم من الصورة، أو على الأقل ما تصورت أنه كذلك، وفي الوقت نفسه أخبرك بحقيقة رأيي، بأن هناك نساء ارتكبن جرائم قتل، لكنهن في أمس الحاجة إلى الدعم والمساندة، وأن هذا الدعم يمكن أن يمتد من التعاطف الإنساني إلى مناشدة القضاء بتخفيف العقوبة أو الحصول على البراءة، كما يمكن أن يشمل مراعاة ذلك في القانون الجديد لمناهضة العنف ضد النساء، أن يتم تضمين حالة هؤلاء النسوة، من خلال مادة قانونية تمنحهن فرصة أخرى وتعويضًا عما تعرضن له من إساءة، وبذلك لن نكون بدعًا من الأمم، سنكون بذلك نحذو حذو أمم سبقتنا وتفهمت الحالة الخاصة، لامرأة قتلت رجلاً من عائلتها، زوج أو أب أو أخ، تحملته حتى فاض الكيل ولم تر إلا القتل وسيلة للخلاص.