قلق كورونا وأزمة البحث عن المعنى في الحياة

2453

أعلن الحكم صفارة إنهاء أحد الأشواط في غير موعدها، وأعطانا استراحة مفتوحة الأجل. توتر الجميع، أصابنا الهلع وبتنا نفكر ماذا بعد؟ هل وصلنا للنهاية؟ هل انتهت الفرص؟ آراء دينية ونفسية ومجتمعية غزت العالم ما بين مؤيد ومعارض. بدت الاستراحة في أول الأمر مرعبة، ظننا أن السبب الوحيد لقلقنا هو الكورونا وقلقنا على أحبائنا، ولكن ربما لم يكن ذلك السبب الوحيد.

عصاب الأحد

عرف فيكتور فرانكل “عصاب الأحد” على أنه ذلك النوع من الاكتئاب الذي يصيب الأشخاص الذين يدركون نقص مضمون حياتهم وانعدام المعنى منها، عندما تهدأ حياتهم المزدحمة في عطلة نهاية الأسبوع فيظهر الفراغ الكامن داخل نفوسهم. ولعل هذا ما واجهنا جميعًا في بداية أيام الكورونا، حيث اضطررنا إلى مواجهة ذواتنا الحقيقية، بعد أن اختفت كل أساليب “اللغوشة” والضوضاء التي نحاول “سحل” أنفسنا فيها.

شاندلر وجوي

“كله بيعمل حاجة.. اللي بيتجوز واللي بيعمل بني آدمين (هيخلف).. طب وإحنا؟ طب وأنا؟ لو مت انهارده الناس هتفتكرني بإيه”.

لعل هذا السؤال لـ”شاندلر”، المعروف بكوميديته الساخرة، في مسلسل Friends يعبر عن صراع كثيرين. ويدور في خلفية أذهاننا سواء أدركنا أم لم ندرك. ففي كل مرة نفتح فيسبوك وإنستجرام ونرى العالم من حولنا داخل الـstories بديناميكيته، نظن فجأة أننا نقف مكاننا. حتى وإن كنا نتحرك بخطى بطيئة أو نتحرك في طريقنا الخاص الذي اخترناه، سواء بإرادتنا أو لأنه الأنسب لنا في ظل الظروف المتاحة. فنبحث عن أي جديد نفعله، لإسكات ذلك الشعور الذي يلتهم سلامنا.

انسحاب سبل المقاومة

ولكن جاءت كورونا وسحبت منا كل سبل المقاومة التي تساعدنا في الهروب أو حتى مقاومة ذلك الشعور بالخواء أو الوحدة في هذا العالم السريع الإيقاع. واختفت كل الخطط لـ”جبال إفرست” التي نسعى لها، لتشعرنا بالإنجاز وأننا حقًا نفعل شيئًا مهمًا. وأصبحنا في عزلتنا مع كورونا مجبورين أن نواجه قلق المرض والموت والخوف على أحبائنا. بالإضافة إلى بعض الأشباح الأخرى من الإحساس بالوحدة والخواء وانعدام المعنى. أو بكلمات أدق ربما البحث عن المعنى.

صارعت كثيرًا في بعض هذه الأسئلة التي لا تنتهي، قرب تخرجي من الجامعة وفي أول سنة لي في المجال العملي، ومع أني وفقت في وظيفة لن أحلم بها في المجال الذي تخصصت فيه في الجامعة، وفي شركة من أحسن الشركات في هذا المجال، لكني كنت أعاني من نوبات قلق حادة في هذه الفترة، أثرت حتى على صحتي الجسدية. كنت أتخيل أن حياتي ستنتهي هنا، وهل هذا حقًا ما أريده؟ هل أرغب في استكمال دراساتي في الخارج؟ هل كنت أود أن أقضي بعض الوقت من العمل التطوعي قبل الانغماس في سوق العمل، تلك المطحنة التي لا ترحم؟ أسئلة كثيرة ومخاوف من أن يمضي العمر في اتجاه لم أكن أريده. وكيف أعرف ما أريده أصلاً؟ دائرة مغلقة من الأفكار تبتلع الشخص ما أن يدخلها، وعادة تبدأ في فترة التخرج وما بعدها، ويسمونها “أزمة ربع العمر” أو Quarter Life Crisis.

بصمتك في العالم

لقد تشبعنا، كجيل السوشيال ميديا، بالحكم والشعارات التي تحثنا على أن نحلم أحلامًا كبيرة ونتبع شغفنا. وأن الحياة أقصر من أن نقضيها في أمر لا نحبه ولا نستمتع به. وأنه يجب أن نترك بصمة في العالم. وضعت علينا أعباء أكبر منا. فأصبحنا مسؤولين عن تغيير العالم، وشعارات أخرى تجعلنا نتوهم أننا إن لم نؤثر في الكون فنحن لا نفعل شيئًا على الإطلاق. وإن لم تتقد عينانا شغفًا أثناء عملنا، فنحن نموت بالبطيء.

والحقيقة أن الحياة لم تكن يومًا بهذا الإشراق. ولا يوجد من يستيقظ كل يوم يدفعه الشغف. سيدفعنا الشغف أحيانًا، والمسؤوليات المادية أحيانًا أخرى، وربما الالتزام بعقد مضيناه مرات، وحتى الشغف كثيرًا ما يخفت. لا أومن بالحياة التي تملؤها الفراشات والقلوب قط. والحقيقة أن أي إنجاز حتى إنجازات أكبر العلماء والفنانين لم ولن تساهم إلا بقدر صغير جدًا في تطور البشرية. علينا أن ندرك محدوديتنا وضآلة أحجامنا وأن أي دور سنفعله مهما كان مهمًا سيكون ضئيلاً مثلنا. ولكن بدونه لن تكتمل الصورة.

4 دوافع للمعنى

ولعل من أكثر الأفكار التي ساعدتني في صراعي في ذلك الوقت، هي الفكرة التي يطرحها هذا الفيديو. والذي يفترض أن هناك أربعة دوافع واتجاهات للبحث عن المعنى. وما نسميه أزمة معنى هو عدم القدرة على تحديد موقعنا على خارطة المعنى للإنسانية.

 

أولاً: دافع استمرارية الجنس البشري، وهذا ما يجعلنا نتوق لأن نكون آباء وأمهات، ونميل لوظائف التدريب وكل ما فيه استثمار في البشر، وأيضًا ينتج منه دوافعنا أن نٌحِب ونُحَب.

ثانيًا: دافع الاتصال بعقولنا وفهمها، وهذا ما يجعلنا نتوق لحب الفلسفة أو علم النفس والتعليم، وأي محاولة فهم النفس البشرية ودوافعها وفلسفاتها في الحياة.

ثالثًا: الاتصال بالطبيعة وترويض البيئة التي نعيش فيها، وهذا ما يجعلنا نميل لعلوم الطبيعة أي الفيزياء والعلوم والعمارة وحتى البيزنس.

رابعًا: الرضا والاستمتاع عن طريق النشاطات الروحية أو الثقافية والفنون.

وفي رأيي الشخصي الاختلال ما بين عناصر أو دوافع المعنى الأربعة التي سبقت ذكرها، هو ما يجعلنا نعاني من العصابي أو القلق الوجودي، كالذي أصاب الكثيرين في فترة كورونا. فمثلاً الأم التي تكرس حياتها لأولادها بدون أن تتعلم مهارات جديدة تسطيع بها المشاركة في ترويض البيئة (العنصر الثالث)، ولا وقت ولا طاقة لديها للاستمتاع بالفن أو ممارسة موهبتها المفضلة (العنصر الرابع)، نجدها أكثر عرضة لأن تشعر بانعدام المعنى وعبثية الحياة. وكذلك الفتاة الثلاثينية العذبة نجدها قد تشعر بالخواء، على الرغم من نجاحها في عملها (العنصر الثالث)، فنجدها تبحث عن أي عمل تطوعي تستثمر فيه طاقتها كأم، تلك الطاقة السحرية داخل الفتاة.

فيكتور فرانكل والمعنى

يلخص فيكتور فرانكل آراءه في إيجاد المعنى في الحياة في ثلاث نقاط. أولاً عن طريق عمل ما أو مشروع معين، سواء تطوعي أو مشروع خاص أو فعل شيء تحبه أيًّا كان مما يعطيك إحساسًا بالإنجاز. ثانيًا عن طريق خبرة ما تثري الحياة، خبرة جمال سواء في الطبيعة أو في شخص جميل، وهذا يتضح جليًّا في العلاقات المشبعة سواء في مجموعة أو العلاقات العاطفية العميقة التي تعطي معنى للحياة، وغيابها يترك الإنسان يشعر بالخواء. ثالثًا: الاتجاه الذي يأخذه الشخص تجاه المعاناة الإجبارية التي تفرضها علينا الظروف، كالظروف التي مر بها العالم كله في الأشهر الأخيرة من تغيير في أنماط حياتنا وفقد لأحباء، وقلق مستمر على أحبائنا، وربما فقد وظائف.

الأموات لا يصارعون

ربما لم أقدم لك نصائح عن كيف تتجاوزين تلك الفترة، وهذا لم ولن يكون هدفي أبدًا. أحدهم يقول دائمًا إن السؤال الذي ينتهي بنقطة هو سؤال فاشل، ولكن السؤال الناجح هو الذي ينتهي بعلامة استفهام أخرى. فهذه هي الحياة، وتلك الصراعات والأسئلة هي التي تشفي عقولنا وتنضجنا وتجعلنا نختبر كل مسلمات حياتنا، وربما نقرر الثورة عليها يومًا. ولعلي أستعير جملة أحد أصدقائي “الأموات لا يصارعون”. فهنيئاً لك إذا ما زالت لديك الطاقة والأمل لكي تسألي وتحاولي السيطرة على حياتك. فأنتِ حية!

اقرأ أيضًا: في مواجهة كورونا فيروس: الخوف إعادة اكتشاف للقلب ودروبه

المقالة السابقةاضطراب القلق عند الأطفال: أنواعه وأعراضه وعلاجه
المقالة القادمةنوبات القلق المرضي: كيف واجهتها في زمن كورونا

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا