منذ ثلاثة أعوام عاهدت نفسي على ألا أضع أي خطط مستقبلية أو طويلة الأمد. لم يكن ذلك عهدًا مكتمل الملامح. كنت فقط أحاول أن أحظى بأكبر قدر من السكينة. أن أتخذ كل القرارات الجذرية في حياتي لتصب في مصلحة هدوء النفس والبال. ولكني كنت لم أزل أحلم بالمستقبل وأعمل لزمني هذا كل ما يزيد فرص تحقيق الغد الذي أرتضيه لنفسي.
ولكن الشهور والسنين تمر فيتجدد العهد، أو -بمعنى أقرب إلى الصحة- يزداد نضجًا، فيتحول إلى عهد على أن أحيا بلا هدف، وعهد على البذل هنا والآن، بضمير محب.
ولكي يصل المعنى واضحًا لمن يقرأ عن هذا العهد، وجب عليَّ أن أسأل في البداية.
ماذا يحدث عندما نضع الأهداف؟
لا أحد يستطيع إنكار فضل وضع الأهداف علي زيادة الجهد والسعي للتحقيق، بل أحيانًا يكون وضع الأهداف ضروريًا لاجتياز مقابلة عمل لزيادة فرصة الحصول عليها، عن طرق الإجابة بشكل مبهر يظهر حجم الطموح والاستعداد لتقديم كل المجهودات لصاحب العمل.
ولكن هنا تظهر نواة القنبلة الموقوتة، فالأهداف توضع لتحقيقها وليس لتأملها، واحتمالية السقوط هي فكرة اكتئابية -بمجرد ظهورها- تستدعي معها مشاعر اليأس والإحباط. والفشل في تحقيق الهدف لا يقل خطورة عن الإصابة برصاصة قاتلة، ينتهي معها أي شكل من أشكال الأمل.
بالطبع تقل مخاطر القنبلة الموقوتة طبقًا لاختلاف تفكير كل منا، فهناك من يضع أهدافًا تكون بالنسبة له معركة حياة أو موت. وهناك من لديه بعض التعقُّل والمتانة النفسية لقبول الخسارة.
ومن وجهة نظري، الخسارة عند أصحاب الأهداف ليست فقط في عدم الوصول لهدفهم، وإنما في الوقت والجهد والعمر والخسائر النفسية والعاطفية أحيانًا. فصاحب الهدف قد استثمر جزءًا كبيرًا من سنين عمره باذلاً كل ما استطاع، يحلم بلحظات الوصول غير مبالٍ بطريق الوصول.
وطريق الوصول هو ما جعلني أعيد السؤال بشكل عكسي:
ماذا لو لم يعد لدينا أهداف؟
يبدو هذا الاستفهام سلبيًا للوهلة الأولى، ولكن مع تدقيق النظر قد نجده أكثر إيجابية، وربما تليق رواية “الخيميائي” لكاتبها باولو كويليو بحديثنا.
تحكي الرواية عن رحلة الفتى الصغير “سانتياجو” للبحث عن الكنز، لتنتهي الرواية المليئة بالأحداث التي مر بيها الفتى وتعلم فيها الكثير، بغير العثور على الكنز. ليكتشف أنه كان الرحلة، كان الطريق للوصول هو كنزه ولكنه انشغل عنه ببصيرة لا ترى إلا الهدف.
يظن البعض أن الأهداف هي الحافز على العمل، أو أنها ضرورة لتحقيق الذات، وكأن ذاتنا تقف دائمًا في آخر قائمة الأهداف حتى تكون مرهونة بعدد لا بأس به من النجاحات الوقتية، مسجونة في الإطار الذي نرسمه لأنفسنا بإحكام. إطار يرى النجاح في المال والمنصب والسلطة والممتلكات، وصورة عائلية يبتسم فيها كل أفراد العائلة غير مبالٍ بأحداث الصورة قبل التقاطها.
ورجوعًا إلى حافز العمل، فلنتخيل معًا منصبًا في شركة أو منحة لجامعة أو مسابقة لأجمل لوحة، والتنافس بين فردين، أحدهم تدور حياته حول الوصول، ويداوم على الاجتهاد ليلاً ونهارًا، يؤمن أنه يستطيع ولا يبخل بوقته مهما طال، ويُسخِّر كل ما لديه لهدفه. والآخر يعطي نفسه ما تستحقه، غير مهتم بما سيجني غدًا، فاليوم أولى، فهو هنا والآن، يعمل لنفسه لا لحساب الآخرين، ولا يسعى لتصفيق العالم له ووقوفه تقديرًا له، ورغبته في الحياة تزداد، ومعها يزداد الجهد والبذل، والرغبة والجهد يجعلان تحمل المسؤولية مُرحَّبًا بها عنده، بل محببة دون ضغط وتحمل أعباء نفسية مجهدة.
ولأن تحقيق الهدف شيء محتمل النجاح أو الفشل، فربما يفوز الأول أو الثاني، ولذلك سنستعرض المكاسب والخسائر لكل منهما، سواء في حالة النجاح أو الفشل.
مكاسب وخسائر الفرد الأول:
بالطبع في حالة النجاح يكون تحقيقه للهدف هو أكبر مكسب، ولكنه مكسب فردي وحيد. ولكن خسائره الحياتية والنفسية قد تكون أكبر صفعة لم يحسب لها حسابًا يليق بها.
وفي حالة الفشل تكون مكاسبه صفرًا، وخسائره عدد لا نهائي وعلى كل المستويات، ووصمة بالفشل لا يقبل أن يغفرها لنفسه.
مكاسب وخسائر الفرد الثاني:
في حالة النجاح، سوف يلقب بمكسبه بأنه الحاصل على الجائزة الأكبر على الإطلاق، فقد فاز بالكنز وبرحلة الوصول له أيضًا، والخسائر صفر.
وفي الحالة الأخرى، فالفشل عنصر غير موجود في المعادلة في تلك الحالة، فلديه مكاسبه التي كان يجنيها طوال رحلته، والتي لم يكن لها هدف في الأساس، وبالتالي ليس للفشل معنى هنا.
فالفشل هو فشل تحقيق ذاتنا، وذاتنا ملتصقة بنا دائمًا، إن لم نرعها كل يوم وأجلناها، تصبح مشروطة ونحن معها مهددون. أما الأهداف ستظل فكرة محتملة، إن حدثت تكون إضافة لا خذلانًا. فغير معقول أن نرهن كل اللحظات التي نعيشها بهدف قدري قد يتحقق أو نموت ونحن على أعتابه.
لذلك كان هذا عهدي لذاتي، أن أحيا لها كل يوم، أعمل برغبة وأبذل جهدي هنا والآن، فماذا عن عهدكم للسنة الجديدة؟