أعد في سري: واحد، اثنين، ثلاثة… أصل إلى رقم ثلاثين، ثم أُحدِّث نفسي “ستُقال الآن”، وبالفعل تنطلق الجملة التي اعتدت على سماعها حتى كادت تصبح دستور حياتي “ربنا يكون في عونك”
تٌقال لي بمصمصة شفاه، ووجه حزين، لم تكن من الغرباء فحسب، بل كانت من الأقارب والأهل أيضًا، والسبب هو أن طفلي يستحق لقب الطفل الحركي بجدارة.
وقتها لا أفعل شيئًا سوى الابتسام، وأحيانًا أبدأ في الهزل والمزاح عن الأمر، ولكن في حقيقة الأمر أنا أخفي دموعي بكل ما أوتيت من قوة، حتى لا تنهمر بغزارة.
ولكن هل كانت الكلمة تسعدني أو تخفف عني كما يعتقد قائلها حقًا؟
الحقيقة التي لا يعلمها أحد أن تلك الكلمة تتسبب لي في أشد ألم ممكن أن يتخيله إنسان، خصوصًا إذا كانت مصحوبة بالدهشة
فقد كنت أدرك المعنى الخفي وراءها، وهي أن ابني شقي، أو حركته غير طبيعية، وأن محدثي فقط يستخدم كلمات دبلوماسية للتعبير عن وجهة نظره. ثم أعود تلقائيًا إلى سنوات طفولتي الأولى.
كنت طفلة حركية أيضًا
ما زلت أتذكر الكلمات التي كانت تقال لأمي كمواساة أو لوم، بشأن حركاتي المتتالية والكثيرة، والتي أحيانًا كثيرة كانت لا تستطيع السيطرة عليها، من فرط سرعتي مثل “بنتك شقية جدًا”، “دي مش بتقعد في مكان، إيه ده! ربنا يكون في عونك! ربنا يرحمك يا حبيبتي إيه الشقاوة دي؟! أكيد تعبانة منها بسبب حركتها”.
رغم أن سني وقتها كان صغيرًا جدًا، فإني كنت أنتبه بشدة لتلك الكلمات، كنت أدرك تغير ملامح وجه أمي إلى القلق والإحراج بعد سماعها، وكما ألاحظ التغير في تصرفاتها تجاهي حتى ولو لدقائق قليلة، قبل أن تسيطر على أعصابها، وعصبيتها إذا كنا في الخارج ومعنا غرباء.
ومع عدم قدرتي على التعبير عن نفسي، مثل أي طفل في هذه السن، فكنت أكتفي بدعاء الله سرًا بألا تتأثر أمي كثيرًا بتلك الكلمات، وإلا ستبدأ وصلة من التقريع لي بشأن تصرفاتي لا تنتهي، بل وقد تحرمني من اللعب في هذا اليوم
تعرفي أيضًا على: كيفية قضاء الوقت مع الأطفال في المنزل
فبدون هذه التعليقات التي تأتي في وسط يومنا العادي، كريح عاصف مدمر لحديقة غنَّاء بالأزهار الجميلة، كانت أمي تشجعني على اللعب كثيرًا، بل وتترك لي الحرية بأن ألعب كيف ومتى أشاء دون أي قيود.
ولكن الأمر كان لا ينتهي عند هذه النقطة أبدًا، فكان هناك مشهد آخر أمر به كل ليلة قبل نومي، وهو أنني أتخيل عندما أكبر، سأذهب إلى هذا الشخص الذي وصفني بأنني مُتعِبَة وشقية، وسأحدثه بشأن ما قاله عني، وأعرفه أنه أخطأ في حقي، وأنني لم أفعل له شيئًا، لكي يحرمني من حقي في اللعب، بل ويوصمني بشكل غير مباشر.
مما جعلني في نظر الجميع طفلة غير محبوبة، وهو ما ترسخ في نفسي لفترة ليست قصيرة، يمكن القول لسخرية القدر، حتى ولادة ابني، والبدء في القراءة عن علم نمو الطفل.
هلا نظرنا للأمور من وجهة نظر الطفل؟
ما لا يدركه البعض أن تأثير بعض الكلمات مثل الرصاص، قد تسبب أذى لا يمكن محو آثاره إلى الأبد، وهو ما حدث معي خلال طفولتي، ويتكرر بشكل مدهش مع طفلي الصغير
والسبب هو ثقافة عدم فهم طبيعة الأطفال الصغار، وأن هناك فئة في الأطفال يطلق عليها الطفل الحركي.
فإذا نظرنا للأمر من وجهة نظر الطفل الحركي-من واقع تجربتي على الأقل- فالعالم بالنسبة له مكان للمغامرة والتجارب، وهو يتميز بطاقة بدنية هائلة يسعى لاستغلالها في اكتشاف هذا العالم.
أي ببساطة مصدر سعادة هذا الطفل هي الحركة، وفي نفس الوقت مصدر نموه العقلي والنفسي.
فالطفل لم يخلق لكي يجلس في مكانه ويقول “حاضر ونعم” فقط، وحتى لو كان هناك أطفال يفعلون ذلك، فالصحيح هو أن الأطفال مختلفون في طبيعتهم النفسية والبدنية، وطريقة اكتشاف كل طفل للعالم من حوله متباينة.
تعرفي أيضًا على: اضطراب القلق عند الأطفال: 8 طرق تساعد طفلك على تجاوزه
من هو الطفل الحركي؟
بحسب نظرية الذكاءات المتعددة، فكل طفل يتميز بنوع من الذكاء، ومنها الذكاء الحركي، وهو الطفل الذي يميل إلى الحركة بشكل دائم، ويعتبرها وسيلته في اكتشاف العالم
فهو يكتسب خبراته من حركته، والمواقف المختلفة التي يمر بها، وبمعنى آخر قدرة الطفل على استخدام جسمه في التعبير عن الأشياء وحل المشكلات، فأصحاب هذا الذكاء من الأطفال يمكنهم التعلم بشكل أفضل، من خلال التجربة للحصول على الخبرة، ومساعدة الطفل تكون من خلال تنمية هوايته، وإذا أردت تعليمه شيئًا فمن الأفضل القيام بشيء حركي.
وهو يختلف عن الطفل المصاب بالنشاط الحركي الزائد، أو ما يطلق عليه AHAD وهو نقص الانتباه وفرط النشاط. فنقص الانتباه وفرط النشاط يعد مرضًا وله علاج نفسي وسلوكي، يطبقه الوالدان في التعامل مع طفلهما، خصوصًا أن قدرته على التركيز تكون أقل من المعتاد.
الأم لا تتأثر وحدها بل الطفل أيضًا
فأي حديث عن الأمر أمامه، سيفهم الطفل تلقائيًا منه أن وسيلته في التعلم خاطئة، وهو ما قد يؤدي إلى نتائج سلبية، مثل تقوقع الطفل وحيدًا منزويًا، وتحوله إلى طفل انطوائي
بسبب كثرة التعليقات السلبية التي توصمه بأنه غير طبيعي، وشخص سيئ، وسيحاول مرة تلو الأخرى تغيير نفسه، وعندما يفشل بسبب أن طبيعته الحركية أمر فطري خلقه الله به، ستكون النتيجة أن يبتعد ويصبح انطوائيًا خوفًا من النقد.
وقد يتحول إلى شخصية عنيدة وعنيفة (تزيد في الأطفال الذكور) ترفض أي محاولات للنصح في الكبر أو المساعدة، مع الشعور الدائم بعدم التقبل، وهو ما قد يؤدي إلى اضطرابات نفسية، إذا زاد الأمر عن حده.
أما بالنسبة للأمهات، فسواء كان الأمر يأتي في شكل تعليقات مواساة أو نقد، فلن تلبث فترة إلا وتتأثر بتلك التعليقات، وتتحول هي الأخرى إلى أداة تتسبب في قتل الإبداع والنمو في نفس طفلها، وتجبره على الالتزام بالقالب التربوي الذي يعتبر الطفل السوي هو الذي يقول “حاضر ونعم” فقط، أو تحاول مقاومة الأمر
ووقتها سيضغط الأمر على أعصابها، وسيكون طفلها أو بقية أفراد عائلتها هم أول قناة أمامها لتفريغ شحنة العصبية والغضب، وهو ما قد يتسبب في توتر شكل الحياة.
وهو ما كان يحدث معي، دون أن أفهم أن تلك طبيعة طفلي، ويجب أن أتقبلها، وأحاول تعلم كيفية التعامل معها، لا أن أحاول تغييرها.
كيف يمكن التواصل مع الطفل الحركي؟
وبحسب عدد من المتخصصين في مجال تربية الأطفال، مثل رونيت باراس مؤلفة كتاب “تحفيز الأطفال”، فالطفل الحركي هو طفل حسي، أي يعتمد على التعلم على الحواس، وأهمها اللمس، وهناك عدة طرق وأنشطة للتعامل مع تلك الفئة للأطفال، وهي على عكس ما قد يعتقده المرء، فهي طرق أنشطة بسيطة وسهلة وممتعة، سيشعر أولياء الأمور بالسعادة والمرح إذا مارسوها مع أطفالهم، ومنها:
- الغناء، فهو من الوسائل المهمة في تحفيز الطفل الحركي، وتشجعه على اكتشاف نفسه، والقدرة على التفاعل مع الآخرين.
- الطهو كذلك وسيلة أخرى لتعليم الطفل الحركي الكثير من المهارات، التي قد يرفض تعلمها بشكل نظري، ويجب التركيز على المتعة، وليس نظافة الأواني وغيرها من أدوات الطهي، فالطفل يتعلم من خلال اللمس والتذوق والشم، وهو ما يساعد عليه الطهو.
- ممارسة الأنشطة البدنية، ويجب الحرص فيها على مراعاة هواية الطفل.
- الألعاب والحرف اليدوية، مثل القص واللصق، الرسم باليدين، تكوين الأشكال من الصلصال والنحت وغيرها من تلك الألعاب التي فيها تكوين شيء جديد.
- لعبة “خمن ما هذا؟”، وهي تستخدم في الأشياء التي لها قوام سائل أو كريمي، مثل العطور، أدوات التجميل، البهارات.
- الدراما، والمسرحيات، وهي وسيلة جيدة لتقدير الذات والقدرة على فهم المشاعر المختلفة التي يمر بها.
- نساعدهم على التأمل، وإذا كان الأمر غير متاح، فيمكن توفير بيئة هادئة خالية من أي مثيرات أو مصادر إلهاء، ليتعلموا أداة الإجهاد.
- مساعدتهم في التعبير عن مشاعرهم، والتركيز على الطاقة الإيجابية والتحفيزية لديهم.
- العزف على آلة موسيقية، يعد منفذًا حركيًا، يربط بين المهارات الحركية الدقيقة، والقدرة على التعبير العاطفي.
- أخيرًا، يستمتع الأطفال الحركيون، بالتشجيع اللفظي، فدومًا كن داعمًا لهم، وحدثهم عن إنجازاتهم ونجاحاتهم، مع تقديم المكافآت المادية أو العينية لهم، لأنهم في الغالب يتميزون بالثقة القليل في النفس.
تعرفي على: 30 نشاطًا صيفيًا لإسعاد أطفالك
ارشادات للتعامل مع الطفل الحركي
وبالنسبة لأولياء الأمور، وخصوصًا الأمهات، فهناك عدة إرشادات يجب اتباعها خلال التعامل مع الطفل الحركي بنجاح، منها:
- يجب تجاهل حركات الطفل المستفزة، سواء كانت حركات عنف، تدمير إذا كان في سن صغيرة لا يتجاوز الـ3 سنوات، لأنها لا تكون إرادية، بل تستهدف لفت الانتباه.
- ضبط النفس، فيجب على الأم ألا تكون عصبية مع الطفل الحركي، أو تستخدم أسلوب الترهيب أو التعنيف، إذا أخطأ في شيء.
- الاتسام بالصبر، فالطفل الحركي، إذا تم التعامل معه بنجاح، يتحول بعد فترة إلى طفل أكثر إنتاجًا وتفاعلاً مع المجتمع من حوله، لأن الطفل الحركي في الغالب أكثر ذكاءً مما يعتقد البعض.
- الابتعاد عن الأطعمة المليئة بالسكريات الصناعية، لأن تأثيرها سلبي على صحة الطفل، ليس فقط جسديًا بل عقليًا.
- إظهار المحبة والعطف، مع كثير من التقبل، هي الوصفة السحرية للحصول على طفل حركي جيد، فلا يجب أن يتم توبيخه أو انتقاده أمام الآخرين.
تعرفي أيضًا على: تأثير المعاملة على نفسية الطفل
وأخيرًا، الطفل الحركي، هو أحد هدايا الخالق لنا، وليس لعنة كما يعتقد البعض، فمن خلالهم تتطور الحياة، ويصبحون العقل المنفذ للكثير من الأفكار والمشروعات التي تغير شكل حياتنا للأفضل، لذا عزيزتي إذا انتقد أحدهم طفلك الحركي أمامك، فانظري لطفلك ورددي جملة واحدة “هو هبة الخالق“.