“نفسية الطفل تتكون عند سن خمس سنوات، ففي هذه السن نصنع شخصيته وبعد ذلك هو يحصد النتائج”.
الجملة دي لما قرأتها حسستني بحجم المسؤولية اللي عليّ كأم، بس مكنتش قادرة أتخيل إزاي ده ممكن يحصل، خاصة في الشهور الأولى من عمر الطفل، وكان جوايا فكرة خفية كده إن الشهور الأولى من حياة الإنسان برة الحسبة دي. لما ربنا رزقني بـ”شمس” وبقيت أقرأ عن تطورها في المرحلة العمرية بتاعتها، بدأت أدرك إزاي حتى الشهور الأولى ممكن تكون مؤثرة فيها.
طب إزاي ده بيحصل؟ وإيه اللي ممكن تعمليه عشان تخلي المرحلة دي ذهبية في حياة ابنك أو بنتك؟ ده اللي هكلمك فيه باقي المقال، لكن الأول عاوزة أقولك إن كلامي ده لا يعني إن أي أخطاء بنرتكبها في الفترة دي أو ارتكبناها غير قابلة للتصليح. لأ، دايمًا فيه فرصة لتصليح الأخطاء ودايمًا فيه فرصة نعمل الأحسن طول ما إحنا عايشين، لكن كل ما بدأنا بدري حصلنا على نتايج أفضل وكانت الكلفة أقل. أنا مش قصدي أقلقك لكن قصدي ألفت نظرك -وكمان أفكر نفسي- لأهمية كل مرحلة في حياة طفلك من أول ما بييجي للدنيا.
الطفل في أول شهرين أو تلاتة بعد مولده بتكون الحياة بالنسبة له إنه ياكل ويغيّر وينام، وطبعًا ما بين الحاجات دي إنه يعيط ويعيط ويعيط. أثناء الشهر التالت أو بداية من الشهر الرابع بيبدأ أخيرًا يدرك إن الحياة فيها حاجات تانية تستحق الاكتشاف، ومع الوقت رغبته في النوم بتقل، وبتزيد في اللعب والاكتشاف والتفاعل.
سرعة تلبية احتياجات الصغير شيء مهم جدًا لأنها بتشعره بالأمان كوافد جديد في هذا العالم الكبير، كمان بتحسسه بالثقة في والديه (وبالذات مامته باعتبارها القائم الأول على رعايته). والثقة دي هي اللي على أساسها بتتبني ثقته في باقي الناس في حياته. تخيلي طفل صغير مبيعرفش يعمل أي حاجة لنفسه ومعتمد عليكي في كل حاجة، وكمان مبيعرفش يؤجل احتياجاته وخاصة إنه كان متعوّد وهو في بطنك إن أكله بييجيله على الجاهز ومضمون من غير ما يعيط ولا يستنى، والعالم ده بالنسبة له مجهول، وإنتي أكتر شخص يعرفه فيه (عارف صوتك وريحتك من قبل ما يحفظ شكلك) ثم باقي الناس القائمين على رعايته واللي بتتسع دايرتهم بالتدريج.
تخيلي إحساسه لما بتشيليه بحنية وتطبطبي عليه وترضعيه أو تغيريله، أو باباه يشيله ويحضنه ويهزه ويغنيله عشان ينيمه. وتخيلي إحساسه في المقابل لما يتساب يعيط، وتشيليه بعصبية أو تبصيله وإنتي مكشّرة أو متبصيلوش أصلاً، بس هو محتاجلك وإنتي العالم بالنسبة له.
حتى لو الطفل مش بيفهم الكلام، لكنه بيحس. وبعتقد -والله أعلم- إن الأطفال بيحسوا أكتر مننا أصلاً. بيحس من لمساتك، من نبرة صوتك، من تعبيرات وشك. د. سبوك في كتابه الشهير (المسمى على اسمه) بيقول إن الطفل بداية من الشهر الرابع بيبدأ يبص كتير في وش باباه ومامته ويدرس ملامح وشهم ويعرف من خلال تعبيراتهم هم فرحانين ولا زعلانين، وهل الموقف اللي همّ فيه دلوقت آمن ولا لأ. تخيلي إنه بيقرأ العالم وبيحدد مشاعره من خلال وشك ووش باباه. تخيلي إن وشوشكم هي العالم بالنسبة له.
لما بطعّم “شمس” بتفضل بعدها يومين مقريفة وبتسخن شوية، بديها خافض الحرارة وساعات بعملها كمادات، وألاقي ماما تقولي خديها في حضنك ونيميها في حضنك، حضنك ده يدفيها ويكبرها ويغذيها ويشفيها (بإذن الله). كنت بقولها حاضر، وأنا حاساها بتبالغ شوية بصراحة، لكن قرأت في الكتب تجارب ودراسات بتؤكد الكلام اللي ماما قالته ببساطة وبالفطرة.
عملوا تجربة على مجموعة من القرود الصغار، جابولهم أم مصنوعة من المعدن (واللي هي مثبت فيها إزازة بيرضعوا منها) وأم تانية من القماش. لاحظ الباحث هارلو إن القردة لما بتحس بالخوف بتجري على الأم القماشية فيهدوا ويبدؤوا يفحصوا الشيء اللي أثار هلعهم، في حين إن القردة اللي اتربوا مع الأم المعدنية لما بيحسوا بالخوف مش بيجروا ناحيتها ولا بيفحصوا إيه الشيء اللي أثار عندهم الفزع.
ولاحظ إن القردة في وجود الأم القماشية الناعمة بيلعبوا ويتنططوا في كل اتجاه ومن وقت للتاني يقربوا منها ويتمسحوا فيها ويرجعوا يكملوا لعب واستكشاف. ولما الأم دي بتبقى مش موجودة لاحظ إن القرود (حتى اللي معرفوش غير الأم المعدنية) “يبدون نماذج سلوكية جامدة” زي إنهم يحطوا راسهم بين إيديهم أو يلزقوا وشهم في الأرض ويصرخوا. وخرج الباحث من التجربة دي بتأثير الملامسة الجسدية في تعلق الطفل بالأم بصورة مستقلة عن الرضاعة.*
دراسة تانية أجريت وبينت إن معدّل الوفيات كان عالي في ملجأ للأطفال، بس الطفل اللي كان سريره قريب من باب الأوضة كان أكثرهم انسجامًا وقدرة على التكيف، ووزنه كان بيزيد. ولقوا إن السبب إن عاملة النظافة كانت بتقعد وقت تناول الطعام جنب الباب، وهي قاعدة كانت بتلاعب الطفل ده وتناغيه وتحضنه، ومن هنا خرجوا بنتيجة مهمة بتقول “إن اللمس حيوي جدًا إلى درجة أن الإنسان يمكن أن يموت من دونه”.
وعشان كده متخافيش تشيلي طفلك، بالذات في التلات شهور الأولى من حياته. ناس كتير هيقولولك بلاش تشيليه عشان ميتعودش، لكن الخبراء بيقولوا إن الطفل في أول 3 شهور بيحتاج يتشال عشان هو بيحب يحس زي ما كان حاسس في بطن مامته، لأن ده بيحسسه بالأمان، وإن ده مش هيخليه يتعود على الشيل.
الأم ممكن تعمل إيه تاني؟ تكلم طفلها، تقوله كلام مفهوم (تغنيله، تحكيله قصة، تدردش معاه… إلخ) أو تصدر أي صوت أو تقلد الأصوات اللي هو بيصدرها (آه، إغ، جه، إيه… إلخ). وده عشان تشجعه على التواصل. الطفل بيحتاج للاهتمام والتواصل، مش قادرة أوصفلكم “شمس” بتتبسط إزاي لما أنا وباباها نبص في عينيها ونكلمها، أو لما أبص في عينيها وأغنيلها أو أقرألها من كتاب (حتى لو كتاب مش بتاع أطفال)، بس الفكرة في التواصل اللفظي والبصري. وعلى فكرة التفاعل ده هو اللي الطفل محتاجه وبيتعلم منه مهارات اجتماعية وكلامية وغيرها، التفاعل مش التليفزيون زي ما كتير مننا متخيلين، واللي على العكس بيقلل فرص التواصل والتفاعل.
وعشان أكون صادقة معاكم، أنا بستمتع بوقتي مع “شمس” آه، لكن صعب أفضل طول الوقت مهتمة ولطيفة وبلاعب من غير ما أحس بالإحباط لإني مش عارفة أفطر أو أكتب فقرة على بعضها أو… أو… إلخ، لكن كل ما أتخيل إن التصرف اللي أنا هعمله/ مش هعمله معاها دلوقت ممكن يخليها تفضل طول عمرها تصارع مع الإحساس بالقبول/ الرفض، الأمان/ الخوف، وبالتالي ده هيؤثر بدرجة مش قليلة على اختياراتها في الحياة وسعادتها، أقول لنفسي أكيد هي أهم من أي حاجة بعملها دلوقت، سواء كان طبيخ ولا تنضيف ولا شغل… إلخ.
وعشان إحنا -كأمهات- بشر ولنا طاقة محدودة، فأكيد هنحتاج حبة وقت لنفسنا ننام أو نقرأ أو نخرج أو نمارس هواية عشان نشحن طاقتنا ونقدر نواصل، وعشان كده ركزي ورتبي أولوياتك ومتاخديش كل حاجة على أعصابك، واطلبي المساعدة من اللي حواليكي، متحاوليش تتقمصي دور البطلة وتشيلي المسؤولية لوحدك.
****************
* كتاب الأمومة: تطور العلاقة بين الطفل والأم، تأليف د. فايز قنطار، سلسلة عالم المعرفة الصادرة عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب- الكويت.
** كتاب خطوات تطور الطفل، يمكنك تحميله : أضغط هنا