عشت قرابة عشرين عامًا أو أكثر أعرف أن “ما عيب إلا العيب”.
العيب واضح ومتفق عليه في أغلب المجتمعات التي قد أتعامل معها، في المدرسة ثم الجامعة ثم سوق العمل، مرورًا بالجيران وأصدقاء النادي وزملاء الـ”كورسات”.
لكننا كبرنا.. كبرنا وتغيرت الأدوار، وصعدنا منابر الآباء. كبرنا في عصر تشابكت فيه الأسس واختلطت المفاهيم، تسارع تغيُّر المعايير وتسطّحت القيم، فقد كانت أمي تخبرني أن كذا عيب فأجده عيبًا في كل الأماكن فتستقر القيمة في نفسي، وإن تجرأت على مخالفتها فهو من باب الفضول والتجربة، وسرعان ما أتدارك الأمر وأعود. لكن الآن العيب عندي يخالف العيب في المدرسة، وكلاهما يخالف العيب في الأفلام والأغاني، وكل ذلك غير العيب في الشارع.
عليّ إذن أن أخرج من فقاعات الكلاسيكية وأكون واقعية، وأقر أني لن أربي أطفالي وحدي مهما حاولت، بل ستربيهم معي المدرسة والشارع ومحتوى الأطفال على الإنترنت، ستربيهم معي جدّتهم ومسلسلات رمضان وسائق السيارة التي ستوصلهم إلى المدرسة، ستربيهم السلع الاستهلاكية وgames التابلت وأمهات أصدقائهم.. تلك المدينة بكل محتواها ستشاركني تربية أطفالي.
ولأن الله أجاب دعوتي ورزقني ببنت، فلا أريد أن أكرر التجربة مع صبي. لا أريد أن أنجب صبيًا في هذه المدينة، تلك المدينة التي ينبغي عليّ مجاراتها لئلا أربي أطفالي في عزلة، ستعلم ابني أمورًا غير قيمنا، لن يقتنع بأن “ما عيب إلا العيب” سيرى عيوبًا في البيت مقبولة في خارجه، والعكس بالعكس.
أود أن أغرس في ابني قيمًا لا أظن ستساعدني المدينة في سُقْياها وإنباتها، أود أن أعلمه “الشرف” و”القوة” و”الحب”.
الشرف
سيخبرونه أنه بلا شرف، أن شرف الرجال في أجساد وتنورات نساء العائلة، ستخبره نظرات أصدقائه ولمزاتهم أن اتساع طوق فستاني ورنة ضحك أخته هما ما يحددان رجولته، وأنه كفرد مستقل قائم بذاته لا شرف خاص به.
سيعلمونه أن جسده رخيص، وأن رجولته تحتم عليه تجربته مع الكثيرات، الرخيصات حتمًا لأنهن فرّطن في أجسادهن، أما هو كرجل فلا قيمة لحفظ جسده أو فرطه. لن تنبهه تلك المدينة أن جسده خشن وروحه ليست ملساء لتنزلق من فوقها التجارب، وأن كل لقاء حميمي سيعلق منه شيء ما على روحه. لن تساعدني تلك المدينة في إقناعه أن قلوب النساء هشة قابلة للتفتت إن قَبّلتها ورحلت.
القوة
هذه المدينة التي ستربي معي أطفالي لن أنجب لها صبيًا. ابني الذي سأعلمه القوة لن أعرف أن أكون قدوة له، سيخبره أصدقاؤه أن القوامة في كسر صلابة صاحبتِه وأن في قوة النساء ضعفًا للرجال، وربما في طور مراهقته سيكرهني، سيكره تقسيمي لعمل البيت بينه وبين أخته، سيكره خدمة أبيه لنا ونقاشاتي ندًا بند له. سيكره كون أخته صاحبة رأي، ولا تعد له الشاي من باب الواجب وتنتظر شكرًا إن رتبت له سريره، سيرى في كل ذلك قضاءً متأخرًا لواجباتها.
هذه المدينة التي ستربي معي أبنائي ستخلع من قلب ابني بذور الرفق التي سألقيها فيه، سيلعب بعجينة أرواح الفتيات حتى يُشكّل تمثاله الخاص ثم يأكله، ويبحث عن أخرى. ففي كثرتهن قوة له بين الرفاق.
الحب
تلك المدينة التي لن أنجب لها صبيًا لا تعلِّمُ الرجال الحب، مدينة لا تتوقف عن خذلان البنات وتخريب أرواحهن لن تساعدني في تعليم ابني الإخلاص والحنو. لا تعرف أن وحده الرجل يمكنه حمل عبء طمأنة البنات، وأن كل قلب كئيب كثيرًا ما كان وراءه رجل غبي لم يرَ في البكاء سوى نكدٍ ولم يسمع من الشكوى غير اللوم و”التقطيم”، تلك المدينة تركّب لرجالها آذان لا تسمع الاحتياج، وأعين لا ترى التكسُّر. كما سأتشارك أنا وبنات تلك المدينة في تعويده على أننا مهووسات بالوجع، فقلوبنا العلوج المفتوحة له وقتما يعود ستساعد تلك المدينة في إهماله للحبيبات.
لا أريد أن أنجب صبيًا في هذه المدينة، لأنني أضعف من إنبات قلب صبي طيب وقوي، ربما لأن قلوب البنات لا تعبث بها تلك المدينة فتظل حانية بالفطرة، يمكنني فقط تعليمها القوة، أما الصبيان تفتش في قلوبهم وتغيرها ببساطة، فلن أقوى على لملمته.
ربما إن كنت في مكان آخر يساعدني في تقوية عوده وإبقائه أخضر.. ربما أفكر في الأمر، فإن أنجبت صبيًا سأحاول الهروب به من هنا، من بين قلوب خَرِبة ومُخرِّبة، أريده رجلاً قويًا محبًا شريفًا.. أريد أن أنجب صبيًا في مدينة تربِتُ على القلوب.