ما زالت ترن في أذني أغنية محمد منير التي كثيرًا ما كنت أسمعها في مراهقتي “الفرصة”، وهي من ألبوم اسمه “الفرحة” صدر سنة 1999، وتقول كلمات الأغنية:
“الفرصة بنت جميلة راكبة عجلة ببدال شعرها بيطير قدمها
بيداري علينا جمالها والعاقل لو يلحقها يتبدل بيه الحال
لو ننده مبتسمعشي أصلها بتسد ودانها
لو راحت مبترجعشي دي شقية وليها دلالها
حلمك لو يوم يلمسها تديك أكتر ما بتحلم
الفرصة بتعرف ناسها واللي بتفوته بيندم
لو واقف وسط كتير ممكن تختارك إنت
مهما تطول المشاوير في آخرها هتوصل إنت
والعاقل لو يلحقها يتبدل بيه الحال”
عندما أتأمل كلمات تلك الأغنية الآن أكتشف عدم النضج الذي تنضح به؛ من قال إن الفرصة لو “راحت مبترجعشي”؟ نحن من نصنع الفرص دومًا، تلك العبارة الأزلية التي تصدرت طفولتنا جميعًا وعلمتنا أن الفرص لا تأتي إلا مرة واحدة أفقدتنا قدرتنا على الحلم، لماذا نحلم ونحن ضيعنا فرصتنا الوحيدة؟
أعمل مع المدمنين منذ اثني عشر عامًا، ويمكنني القول إن المدمنين ربما في إدمانهم ضيعوا فرصًا كثيرة، لكن الحياة بدأت بعد ضياع كل الفرص، نبتت زهرة تعافيهم من قاع الفشل وضياع كل الفرص الممكنة، ذلك الشخص الذي استطاع التبطيل لأكثر من عشر سنوات وأصبح يمتلك مكانًا علاجيًا، وآخر درس ليصبح خبيرًا في المجال، كل هؤلاء لم يحدثنا أحد عنهم في طفولتنا.
في المرحلة الابتدائية أخبرتني أمي أن تلك هي الفرصة الوحيدة لي ليكون مجموعي كبيرًا لأدخل مدرسة للفائقين، وفي الثانوية العامة أخبروني أنها الفرصة الوحيدة للحاق بركب الفرص الجيدة، وإذا ضاعت مني ولم أحصل على مجموع كبير ستنتهي حياتي بائسة.
إصرارنا على ثقافة الفرصة الوحيدة سيقتل الأمل لدى الأطفال، وسيشجعهم على الاكتئاب والانحرافات السلوكية لمن لديه استعداد.
منذ أيام جاء إلى العيادة مراهق متعاطٍ للمخدرات، بمجرد معرفة أهله بخبر تعاطيه أخرجوه من نوعية التعليم الذي يتلقاه لتعليم أقل باعتباره أضاع الفرصة، كان مكتئبًا ومستمرًا في التعاطي لأن الحياة انتهت. عندما طلبت منه أن يحدثني عن أحلامه القديمة ظل وقتًا طويلاً حتى تلمع عيناه، فيذكرني بحلم قديم عن رغبته في دخول كلية الهندسة، لكنه استطرد قائلاً إنه أضاع الفرصة ولن يصبح بإمكانه فعل ذلك.
يمكنني القول إن استمرارنا في قتل فكرة الفرصة الثانية جريمة يجب أن نعاقب عليها.
ينبغى ألا نحكم على الطفل من فرصة واحدة. أتذكر مستواي الضعيف في المرحلة الابتدائية والإعدادية، وتلك المعاناة وكم الإحباط الذي عانيته من فكرة الفرصة الواحدة، لم يخبرني أحد أن هناك فرصة أخرى أمامي عندما أدرس المواد الأدبية في الثانوي، لم يخبرني أحد أنه ربما تكمن فرصة ثانية في شرح مختلف وطريقة أنسب لطفلة تعاني من صعوبات التعلم.
الفرصة الوحيدة تناسب الفائقين والمتميزين فقط من المهرة صائدي الفرص، لكن الأطفال العاديين لن يستطيعوا اللحاق بها، وسيصيبهم الاكتئاب وتدني صورة الذات، فأنا فاشل ما دمت ضيعت فرصتي الوحيدة.
كم شخصًا منا يتذكر تربيته على التشجيع لضياع فرصته؟ كلنا نتذكر التشجيع على اللحاق بالفرصة، على الرغم من أننا نحتاج التشجيع والتربيت لتأكيد أن هناك فرصة ثانية، وأنها لا تخص الفشلة فقط. ترسخ في أذهاننا منذ الصغر أن الفرصة الثانية كما الملحق الصيفي، لا أحد يريد الوصول إليه.
سأُعلِّم ابنتي أن الفرصة الثانية والثالثة شجرة تكبر معها وستطرح نبتًا جميلاً، ستتذوقه يومًا ما، سأقول لها لا تخافي من الفشل، لا أحد يطالبك بشيء، فقط كوني جريئة واعلمي أن الفرصة الوحيدة أكذوبة، وأن الحياة تعلمنا على مهل، لنروي نبتتنا ونستمتع برحيقها.
لو راحت مبترجعشي دي شقية وليها دلالها