قبل رحيل أحدكم: نحن نحبكم

1459

وجد معيار ثابت لقياس الحب. فهو كما قال جلال الدين الرومي في رواية قواعد العشق الأربعون:

الحب لا يمكن تفسيره ولا يمكن إلا معايشته واختباره، ومع أن الحب لا يمكن تفسيره، فهو يفسر كل شيء

“خلاص إحنا هنطلق، وعملنا محاضر في بعض، الحياة أصبحت بيننا مستحيلة، حتى لو كان بيننا طفل”.

تحكي هي بينما أستمع إليها بذهول حقيقي، فما تقوله يتناقض تمامًا مع ما كنت أراه من كلمات الحب والغرام بينها وبين زوجها على حساباتهم على فيسبوك، وإعلانها بفخر أنها لن تجد حبيبًا غيره في الحياة. صديقتي التي لا يعلم أحد عنها شيئًا الآن، كانت بشكل يومي تتحدث عن علاقتها بزوجها بكل التفاصيل الممكنة، مما جعلها مثار حسد الكثيرات بين أصدقائنا وصديقاتنا، وأمنيتهم الوحيدة أن يحظوا بحياة مليئة بالحب والدفء مثلها.

لا توجد قواعد ثابتة للحب أو لقياسه، وإذا حاول أي شخص خلقها بالقوة ليستخدمها كدليل دامغ على أنه يمر بتجربة حب فسيفشل، فكل تجربة مختلفة عن الأخرى، بالضبط كأصابع اليد الواحدة، غير متشابهة برغم أنها في كف واحدة، فليس بالضرورة أن تشبه أحدًا في قصة حبه، لكي يشير إليك الجميع بأصابعهم وهم يقولون: إنه يحب.

تقول إحدى قواعد شمس الدين التبريزي ضمن قواعده الأربعين:

تنبع معظم مشاكل العالم من أخطاء لغوية ومن سوء فهم بسيط. لا تأخذ الكلمات بمعناها الظاهري مطلقًا. وعندما تلج دائرة الحب، تكون اللغة التي نعرفها قد عفا عليها الزمن، فالشيء الذي لا يمكن التعبير عنه بكلمات، لا يمكن إدراكه إلا بالصمت.

ظلت تشكو زوجها كثيرًا أمامنا، من إهماله لها ولأبنائها، كان أحيانًا موجودًا وهو يستمع إلى كلماتها المؤلمة شكلاً ومضمونًا، واستمرت تلك الشكوى رغم مرور 27 عامًا على زواجهما، وحتى بعد وفاته. وفي إحدى المرات بعد مرور 3 أعوام كاملة على رحيله، اعترفت أنها لم تكن تفعل ذلك سوى لرغبتها في الشعور بالحب والحنان فقط كما تحبه هي. لم تعرف الطريق الصحيح للتعبير عن حبها، فمات دون أن يحصل كلاهما على ما يبتغي من الآخر.

***

لا يوجد أسهل من الكلمات عند طلب أي شيء إلا الحب، فتصبح اللغة صعبة. وأحيانًا مستحيلة عند الحديث عن مشاعرنا، ورغبتنا في أن نكون محبوبين من الآخر، وأن يعبر عن حبه لنا. هذه الكبرياء لدى البعض تجعلهم يستخدمون الحيل المختلفة للحديث عن رغبتهم المشروعة، إلا الطريق المباشر، فلا يصل الأمر إلى شركائهم، ويظلوا هم في الحلقة المفرغة من الألم والتعاسة التي لا تنتهي.

تقول أحلام مستغماني في قصيدة “مواسم لا علاقة لها بالفصول”:

هُنالك مواسم للبكاء الذي لا دموع له

هُنالك مواسم للكلام الذي لا صوت له

هُنالك مواسم للحماقات

وأخرى للندم

هُنالك مواسم للرسائل التي لن تُكتب

للهاتف الذي لا يدق

للاعترافات التي لن تقال

كانت تجلس أمامنا على الأريكة الحمراء، وبجانبها بناتها وتحكي عن زوجها المتوفى بشغف حقيقي وقلب نابض، كانت تروي نوادره ومدى إخلاصه وتفانيه في خدمتها هي وأبنائها، ثم تنظر إلى صورته الكبيرة المعلقة أمامها وكأنه سيأتي في أي لحظة ليتلقى هذا الحب الكبير ويحتضنها. ثم صمتت لتبكي. في تلك الأثناء قالت قريبتها، إنها لم تخبر زوجها إطلاقًا خلال حياته بمدى تقديرها له، وكان كل ما تفعله هو التفاخر بما يقدمه لها، وبعد وفاته صارت والندم رفيقين، بعد أن شعرت أنها أخذت ولم تعطِ مرة واحدة في حياتها، حتى لو كان عطاؤها كلمة حب.


الاعتراف بمشاعرنا قد يبدو صعبًا، ولكن الأصعب هو تأخير ذلك الاعتراف حتى يرحل محبونا، وندرك في ألم أنه قد انتهى الوقت، فلا أمل أن يعرفوا مدى حبنا وعشقنا لهم. أن نستيقظ صباحًا كل يوم ونحن نتمنى رؤيتهم أمامنا فقط، لنضم يديهم بين يدينا ونخبرهم عن أهميتهم في حياتنا وأنهم كالشمس المضيئة لنهارنا، والقمر الذي يضفي جمالاً على ليلها. يمر الوقت ويرحلون هم إما بالموت وإما بتركنا، وفي كل الحالات تظل أرواحنا تتآكل جزءًا جزءًا، ونحن نفكر في اعترافنا المتأخر الذي لن يستمعوا إليه.

يقول شمس الدين التبريزي مرة أخرى ضمن قواعده:

من السهل أن تحب إلهًا يتصف بالكمال والنقاء والعصمة. لكن الأصعب من ذلك أن تحب إخوانك البشر بكل نقائصهم وعيوبهم. تذكر، فلا حكمة من دون حب. وما لم نتعلم كيف نحب خلق الله، فلن نستطيع أن نحب حقًا ولن نعرف الله حقًا

رغم كبريائه لكنه قرر تقديم النصيحة للصبي الذي أمامه، من وحي تجربته التي عاشها ولم يطلع عليها أحدًا قط، خوفًا من ظهور الألم على ملامحه، حكى عنها، تزوجها، وعاش معها 12 عامًا، ولكن كان هناك تلك الجملة التي تٌقال له في كل مناسبة، “أنت أجمل منها؛ كيف تزوجتها؟ إنك تستحق الأفضل”، كانت تلك الجملة هي ما جعلته طوال 12 عامًا لا يعطي امرأته حبًا كاملاً، رغم أنها منحته إياه أضعافًا مضاعفة. قال في نهاية حكايته: “لم أشعر بما قدمته، إلا بعد أن ارتبطتُ بأخرى لفترة قصيرة، وشربت من نفس الكأس، فأدركت ما فعلته بحقها، وكل يوم أدعو لها بالرحمة متمنيًا أن تشعر بحبي لها”.

***

غاب ورحل مترادفان لفعل حبيب لم يعد بوسعه سماع كلمات الحب منا، فصار الألم جزءًا منا نعانقه يوميًا قبل النوم، وأحيانًا ونحن ننظر لأنفسنا في المرآة، بل ونحن نتناول طعامنا، فلم يعد بإمكاننا معاندة الأقدار لنخبرهم بحبنا، إما لتأخرنا في ذلك، وإما لأننا لم نقدرهم، أو لأننا لم نفهم أننا نحبهم وأن حياتنا دونهم شيء من السراب.

لذا لكل من نحبهم قبل أن ترحلوا.. نحن حقًا نحبكم.

اقرأ أيضًا: ما هو الحب الحقيقي؟

المقالة السابقة13 مكان على كل أب وأم زيارتهم بمعرض الكتاب
المقالة القادمة10 خطوات لوضع خطة أهداف 2016 متخرش المية
إنجي الطوخي
كاتبة وصحفية مصرية

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا