الحب المنخفض التكلفة

2097

ربما كان لتعريف الممثلة الأمريكية “كاترين هاثاواي” للحب، خصوصية من بين تعريفات آخرين للحب، برأيي، وذلك لأنها حين قالت: إنك لا تعي معنى الموت إلا حينما تعرف الحب، جعلت الحب مقرونًا بالحياة بحد ذاتها، بحيث يصبح أكثر ما يُرهق فكرك ويقضِ مضجعك فِكرة شاردة عن الموت وفراق من تحبهم ويحبونك.

ولكن هل من المنصف أن يظل تعريفنا للحب حبيسًا لذلك القالب الرومانسي الحالم، الذي رسّخته في عقولنا قصص العشاق القدامى وحكايا أجدادنا عن الجميلات وفرسان أحلامهن؟ وإذا كنا خلال السطور القادمة سنتحدث عن الحب منخفض التكلفة، فهل يعني ذلك أن للحب ثمنًا؟

قواعد الحب

قبل ست سنوات من الآن كنت على موعد مع واحدة من أجمل صدف حياتي، حينما أجريت حوارًا صحفيًا مع زوجة الشهيد أحمد حمدي، قائد لواء المهندسين بحرب أكتوبر 1973، والذي يحمل اسمه، النفق الشهير الذي يربط سيناء بباقي مصر. حينها جاء حديث السيدة “تفيدة” عن زوجها البطل، لا سيما نبرة الحنين التي تمكنت من صوتها تمامًا، وكل تفاصيل العرفان والامتنان لرجل فارق الحياة قبل 40 عامًا -وقت إجراء الحوار- ليكوّنوا المداد الذي استعنت به في كتابة قواعدي الخاصة في الحب والحياة.

وهي تتحدث عن رجل عسكري، عاش حياة منضبطة وقاسية، لفت انتباهي تكرارها لصفات بعينها، والتدليل عليها من مواقف في حياتهما وهي: الحنان – الصدق – الطيبة – الطموح.

الحب فطرة

منذ رُزِقت بصغيري “زين الدين” وأصبح لديَّ هذا الاعتقاد بأن الحب فِطرة، لا اجتهاد فيها، وكل ما انطوى حول هذه الفطرة من مشاعر وسلوكيات هو حب مجرد من الشوائب بحق، فالرضيع الذي لم يتجاوز عمره بضعة أشهر، يُبدِ تعلقًا ومحبة استثنائييّن لأمه، التي ترضعه وتسهر عليه ليلاً، وتحرص على تدفئته وتهويته، وبمرور الوقت والمهام، تصير تلك الأم هي الحياة بحد ذاتها. ما أقصده تحديدًا، هو أننا حين نحب بصدق، لن يشغلنا شيء عن ذا الحبيب، سوى مواصلة سعينا لإثبات ذلك الحب له، حتى الكلمات لن يعود لها تلك الأهمية الكبيرة، وإن كانت تستحق جزءًا منها برأيي، لكنها لن تكون كل شيء، فحب الكلام المعسول بلا أفعال ليس أكثر من قصر رائع، بُني على سفح جبل بلا أساسات تحمي وجوده.

حب منخفض التكلفة

قبل نحو شهرين من الآن، كنت أمارس إحدى أبرز هواياتي بملازمة المطبخ لساعات، بينما أتفنن في صناعة كل ما تشتهيه المعدة، دون تدقيق يُذكر في نوعيات الطعام المفيدة والقيمة الغذائية له، ما يضاعفها.. ما يضعفها. لم يكن يهمني، حتى قررت رياح التغيير أن الوقت قد حان، فأصبحت أقضي كل يوم ما بين ساعة لساعتين، في قراءة ما بين سطور الطعام، لبيان قيمته الغذائية، ما يمكن إضافته من توابل لمضاعفته، ما لا يجب استخدامه كي لا تتبدد تلك القيمة،

بينما كنت أقوم بذلك، كنت أشعر بسعادة غير عادية، لأن ذلك كله، ومهما بدا منهكًا سيعود بالصحة والعافية عليّ وعلى زوجي وابني، وهو ذات الشعور الذي يدفع زوجي للامتنان الدائم لي، على كل صغيرة وكبيرة أقوم بها، سواء استحقت ذلك الامتنان أو لم تستحقه، حتى أنه بدأ مؤخرًا في تعليم صغيرنا الذي لم يتقن النطق بعد “شكرًا يا ماما”، وأن يقبّل يدي بعد كل شيء أقوم به لأجله.

كل هذه السلوكيات ما هي إلا صور ملموسة لحب حقيقي، لا يكبدك أكثر من الانتباه والمداومة، لأجل حب تزرعه الفطرة وتغذيه التربية السليمة، ويدعم استمراريته حرص الشخص عليه، ودعم آخرين لتقديمه عبر إبداء الشكر ومواصلة الامتنان.

الحب حرية

قد تكون أحد الذين تلوّث لديهم مفهوم الحب بالتبعية والسيطرة وحب التملك، وقد لا تكون، ولكن هل فكرت لمرة في موقع الحرية من معادلات الحب الناجحة؟ الحرية من وجهة نظري، هي صمام أمان الحب، بل وطوق نجاته الأخير، حينما يستحيل الكون كله محيطًا شاسعًا، بلا حوائط تركن ظهورنا إليها وقت التيه، فالزوجة التي تقيّد زوجها بسلاسل من الشك: أين ذهبت؟ مع من كنت؟ لا تختلف عن زوج يمنع زوجته من العمل، الذي تبرع فيه، بدعوى الغيرة من الغرباء، لا فرق بينهما وبين أم تمنع صغيرتها من اختيار الملابس التي تريدها في حفل المدرسة، فقط لأنها “أكبر منها وتعرف تختار عنها”.

جميعهم مسكونون بروح سجّان، ضخم الهيئة، بوجه عابس، لا يرى في سجينه أكثر من حيوان يجب ترويضه بعناية، ليخرج بعد حين وقد ازدادت حيوانيته ضعفين.

سِحر التفاصيل

منذ بدء الخليقة والعالم تحكمه المادة، لكن القانون القائل بأنك، رغم عدم استطاعتك ماديًا، مجبر على شراء موبايل لخطيبتك مثل سمر ابنة خالتها، وإلا فأنت بخيل ولا تحبها، هو قانون سطحي، ولا يجب أن يستمر ويتسيد حتى يصير دستورًا، فالمعنى الحقيقي للحب هو أن تهتم لأمر من تحب حقًا، تحتفظ بنسخة تفصيلية لما يحب وما يكره، تحفظ قائمة تفضيلاته في الألوان ودرجات الضوء والطعام، بحيث يمكّنك ذلك من طلب الطعام بالنيابة عنه، في مطعم لم تجربا طعامه من قبل، ويفلح اختيارك، بل ويصير اختياره الدائم.

أن تُذكِره بموعد استشارة الطبيب الذي نجحت مسؤولياته المتكاثرة في إغفاله عنه، وكذا ما تقوم بإرساله له من اهتمام سيعود إليك مرة أخرى، وقد حُمِّل بمزيد منه، فسحر الاهتمام بالتفاصيل وبعكس أي سحر آخر، تزداد قوته بمرور الوقت.

حِب نفسك أولاً

إذا كان الحب أحد أكثر الأمور التي تشغل بالك في الحياة، وتبحث عن وصفة سحرية لإيجاده، فدعني أخبرك بقاعدة جوهرية لم أتمكن من الوصول إليها إلا بعد أن أمضيت في الحياة 28 عامًا، وهي أنك كي تستطيع إخبار آخرين بعبقرية طعم حليب جوز الهند، عليك أن تكون قد تذوقته أولاً، ليس هذا فحسب، بل وبعد فترة من اختبار مذاقه، وإلا فالوصف كذبة كبيرة بلا معنى. وهكذا هو الحب، كي تُحب آخرين عليك أن تحب نفسك بحق، تهتم بكل ما يتعلق بها وكثيرًا، فتكن ثقتك بتلك النفس الناتجة عن اهتمامك بها هي نقطة انطلاقك نحو كل شيء بعد ذلك.

فاهتمامك بأمر نظافة أسنانك حُب، وتكييلك الاتهامات بوجه الآخرين نتيجة تعليق سلبي على رائحة فمك، بأنهم لا يحبونك ولا يقبلونك كما أنت، محض أي كلام. دعني أزيل أي التباس قد يحوم حول هذا عندك، أنت سواء كنت رجلاً أو امرأة، شابًا أو عجوزًا، أحد أبرز السبل نحو محبتك لنفسك يكمن في الطريقة التي تعاملها بها.

هل تهتم كثيرًا بنظافتك الشخصية وهيئتك؟ ماذا عن مقدار ثقافتك وقراءاتك؟ كيف الحال مع مشاعرك؟ هل تعرفها حق المعرفة، أم ترى أن بعضًا منها في حاجة للتطوير، أو ربما الترويض إن وجب الأمر. إذا اعتدت ذلك الحب وأتقنته، فهنيئًا لك بالحب الذي ستحصل عليه، وهنيئًا لمن تحبهم، لأن الأشخاص الذين يكرهون رؤية أنفسهم عبر المرآة صدفة، لا يستطيعون حب هِرة. شأنهم شأن من ينظرون لأنفسهم بنظرة دونية لضعف معلوماتهم أو سطحيتها، أو حتى لكراهيتهم رؤية الآخرين بخير حال، هم أكياس بشرية تحملها قدمان منهكتان من البحث عن السعادة، بينما تنضح أعماقها بالكآبة والحزن.

الحب صانع السعادة

ما دمت قد وصلت إلى هنا، و أكملت المقال حتى نهايته، فأنت حقًا معنِي بالحب الحقيقي، ودعني قبل النهاية أخبرك بشيء: الحب يا صديقي لا يُصادف في الطرقات، ولا يجنيه العدم من شجرة الأحلام، وإن توهمت في رحلة بحثك أنك وجدته، فرجاءً لا تتعجل، كفعلة ظمآن في صحراء قاحلة، وجد دلوًا ممتلئًا، فرفعه وارتشف ما فيه كاملاً، ليكتشف في النهاية أن ما استقر في معدته كانت قطرات من لهيب قابل للاشتعال لا الارواء.

وعوضًا عن ذلك تأمل مقولة الكاتب الألماني برتولت بريشت:

يسعى الكل إلى السعادة، دون أن يلاحظوا وجودها خلفهم مباشرة

فلا تترك خلفك عامل البنزينة يتصبب عرقًا، دون أن تبتسم في وجهه مرددًا “الله يقويك”، ولا تغفل عن مهاتفة والدتك يوميًا لتُذكِرها بموعد الدواء، ولا تنس أن تحتضن صغيرك قبل ذهابك للعمل، لتخبره أنه أهم شيء في حياتك، ولا تنسَ كل صباح، أن تخبر زوجتك ذات الوجه المنتفخ أنك تحبها كل يوم أكثر.

الحب لن تصنعه النقود، مهما بلغ قدرها، أو الهدايا مهما عَظُمت قيمتها، كذلك لن تحصل عليه صدفة بينما تهمل كل السبل إليه، ثق أن الحب لن يتحقق في حياتك، إلا بتجاوز المفهوم الضيق للسعادة، ليكن منتهى سعادتك أن تكون سببًا صغُر أو عَظُم في سعادة من تحب وشعوره بالراحة وتمتعه بصحة جيدة، إن استطعت لذلك سبيلاً، والآن أخبرني كم سبيلاً للحب منخفض التكلفة تسلك؟

المقالة السابقة7 نصائح لمواجهة انتقاد الأمهات
المقالة القادمةاحكِ للذي يريد أن يسمعك
كاتبة وصحفية مصرية

1 تعليق

  1. مقال اكثر من رائع و راق لي تجزئة المقال و مناقشة افكار مختلفة و اسلوب أكثر من رائع و مبدعه دائما أستاذة منى و قد أكملت المقال حتى نهايتة ⁦☺️⁩

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا