كيف يأكل القلق المشاعر الأخرى؟

2571

ليسَ سهلاً على من يُعاني اضطرابات القلق أن يتحدّث عنها، وأنا من أولئك. الأمرُ يتطلّبُ كمًّا هائلًا من الجرأة، والصدق للحديث في أمرٍ شديد التعمّق إلى هذه الدرجة في شخصيةِ من يُعانونه. ومن الصعبِ الحديث عن المشاعر مع الناس، دون إقحامِ حياتك الشخصية في السياق، والقلق هو شعورٌ في النهاية، لكنّه شعورٌ متضخّمٌ وقابلٌ للتضخّم أكثر متى وجَد المساحة والمكان لذلك.

القلق يتغذّى على المشاعر الأخرى. أستجمعُ شجاعتي هُنا لأضعَ نفسي وعلاقتي الشخصية موضِعَ المثال على ذلك، ولا يفوتني أن أنوّه أن ذلك يجب ألا يحدُث كثيرًا، مني أو من غيري، إذ أن تصدير العلاقات الشخصية للعلَن يدفعنا غصبًا للتركيز على “صورة” العلاقة أمام الناس، أمام المشاهدين، بدلاً من التركيز على شخصية العلاقة وجوهرها وخطوطها الدقيقة، مما يُسهّلُ هدم تلكَ الصورة التي كبُرَت حتى طغت على العلاقة نفسها، إذ أنّ الناس عادةً ما يستخدمونَ معوَل الهدم متى أعطيتهم الفرصة لذلك.

لكن وللحديث عن القلق الاضطرابي سأستثني هذه المرة وأضعُ علاقتي الخاصة كمثال.

شكل علاقاتي العاطفية مع القلق

على الهامش وقبل التعمّق في الحديث، أذكُر درسًا تعلّمتهُ بالتجربة، العلاقة العاطفية تكونُ أعمق وأقوى حينَ يتم التعامل معها كونها خريطة وطريقًا ومسارًا، وليست قصة أو رواية، الخريطة قابلة للتعديل، تأخُذك إلى أماكن ومشاعر ودروس، تحفُر فيها طُرُقًا ومساراتٍ مختلفة، وبعض الأماكن تحتاجُ اكتشافًا وأخرى تتطلّبُ الزيارة مرتين، أما القصة فإن لها مسارًا محددًا ولا ترجع إلى الخلف. الحُب اقربُ للجغرافيا منه إلى التاريخ.

لم أكُن الشخصية الواثقة من قراراتها، ثابتة الخُطى واضحة الرؤى، بل على العكس أميلُ إلى التردّد والتراجع. قابلتُ أشخاصًا عدّة، عرفتهم قلبًا وقالبًا، لكنّي قط لم أشعُر بشعور “المعرفة” أن هذا هو الشخص الذي يمكن أن أبني معهُ شيئًا ما غيرَ مرّةٍ واحدة. لكن حتى تلكَ المعرفة لم تكُن شافعةً عند “قلقي” ليترُك الأمور تمُر بسلام، وليترُك المجال والمكان للحُب كي ينمو. على عكس ما توقّعت.

لم يكُن الأمرُ سهلاً على الإطلاق، حتى مع شعوري الدائم أني وجدتُ ذلك الشخص الذي يُمكنهُ سترَ هشاشتي وتهدئةِ قلقي الدائم. كُنتُ دائمة القلق من الخطوة القادمة، صغيرةً كانت أو كبيرة، دائمة القلق من أقل التفاصيل أهمية وأكثرها، وكُنت أُقابلُ كُل ما يُهديني هو إياهُ من الأمان بشُحنةٍ من انعدام الأمان.

في رأسي فكرةٌ قديمة تحوّلت إلى مبدأ في الحياة، أني أبدًا لن أجِد الشخص المناسب، وأنه حتى لو كان واقفًا أمامي فإنني سأعجزُ عن رؤيته، تضخّمت تلكَ الفكرة حتى سيطرت على نصف رأسي ونصف مشاعري، وصارَ التخلّص منها مستحيلاً، فصِرتُ أُحبُّ بالنّصفِ فقط ولا أقوى على إعطاء المزيد فوق النّصف.

القلق يتغذى على ما تسمحُ له بأكله، فإن أعطيته عقلك سيأكله، وإن أعطيته قلبك سيأكله، وإن أعطيته كليهما سيأكلهما معًا، سيتغذّى على علاقاتك، وحُبّك، وحياتك تدريجيًا متى سمحت أنت بذلك.

أنا كُنت أُطعمُ علاقتي بشريكي للقلق كُل يومً مرتين، مرةً عند الصباح ومرةً قبل النوم، لأشاهده يأكلها بنهم، أحيانًا كانَ يقتلني الصراع بُكاءً وألمًا، أنني أريدُ أن ينمو حُبّي بحرية من جهة، وأنني لا أستطيعُ التوقّف عن إطعامِ قلقي كل يومٍ من جهة أخرى. في الصباح وبعد الوجبة الليلة أستيقظُ برأسٍ مأكولٍ بالكامل، فلا أقوى على رؤية علاقتي تلك بنظرةٍ واضحة وحقيقية لأنني أنظُر إليها كل صباحٍ برأسٍ من القلق فقط.

لماذا أكتُب عن قلقي الخاص؟

أكتب عن قلقي لأننا جميعًا من السهل أن ننخدع بمشاعرنا الخاصة، المشاعر دائمًا قابلةٌ للتصديق، كلنا نريد أن نصدّق أنها دائمًا حقيقية، لكن الحقيقة هو أن ذلك ليس صحيحًا بالكامل، المشاعر تكون خدّاعةً جدًا أحيانًا، تُخفي الحقيقة عنّا، تمنعنا من الرؤية، تُقنعنا أنه ليسَ علينا تلجيمها وترويضها والسيطرة عليها أبدًا، وأنها يجبُ أن تظل حُرّةً طليقةً دائمًا، وأن لها السلطة العظمى علينا وأن علينا اتّباعها أينما ذهبت، هذا ما يفعله القلق بنا، أما الحُب فليس مندرجًا تحت قائمة المشاعر، فالحُب هو أن تتخذ القرار كُل يومٍ دونَ أن تُسقط يومًا واحدًا باختيار شخصٍ بعينه كي يكونَ شريكًا دائمًا.

لكنَ الأمر طبعًا ليسَ بهذه البساطة، فمن السهل أن تختارَ شخصًا ما ويقرر هو ذاتَ صباحٍ ألا يختارك، لكن قاعدةُ الحب هي التخلّي عن الخوف. قاعدة الحُب هو ألا تترُك المجالَ لقلقك أن يوجّهك، أن يأمُرك بما تفعل ولا تفعل، وأن يُسيطر على رأسك ورؤيتك كل صباح، القلق والحُب لا يجتمعان في قلبٍ واحد، على أحدهما أن يعيش ويتنفّس أكثر من الآخر، فإن طغى خوفك في كل مرة فإن حُبّك هالكٌ لا محالة.

كانت تلكَ نتيجةٌ وصلتُ إليها مؤخرًا بعد صراعاتٍ متتالية بينَ قلقي ومشاعري الأخرى، قررتُ بعدها ألا أُطعِمَ علاقتي كُل يومٍ لأنيابِ قلقي، وأن لا أترُك المساحة داخل علاقتي للقلق كي يستوطن ويبني أعشاشه وينتظرُ الغذاء كُل يوم، كان عليَّ طردُ القلق بعيدًا إن أردتُ استكمالَ علاقةٍ سويّة. لن أدّعي بأن ذلك أمرٌ سهل، فوحوش القلق لا زالت تُهاجمُ علاقتي من جوانب مختلفةٍ من آنٍ إلى آخر، لكنّي على الأقل اتّخذتُ قرارًا بطردها في كل مرة وعدم السماحِ لها بالدخول إلى هناكَ مرةً أخرى، ولم أعُد أقذفُ لها أجزاءً من علاقتي لتتغذّى عليها.

طردُ القلق عملٌ يومي يحتاجُ إلى الكثير من الإصرار والتكرار، سيحتاجُ التغلّب عليه في أصغر المعارك وأبسط التفاصيل، أن تختارَ الحُب في كُل مرةٍ متى استطعت.

اقرأ أيضًا: نوبة القلق المتكررة: كيف هي وما فعلته بحياتي

المقالة السابقةما وددت البوح به لوالدَي
المقالة القادمةاطمئن لست وحدك.. 5 أفلام أبطالها مثلك يُعانون من القلق

1 تعليق

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا