ما وددت البوح به لوالدَي

941

بقلم/ سارة طارق

كان یقول: أتساءل في كل لیلة عن ذلك الجرح الغائر الذي خلفته السنین في صدري، حیث كان من المفترض أن أجد ذاك الصدر الحنون الذي یغمرني بالمودة، الدفء والحب، تلك الأیادي التي تملأ عالمي بالود والأحلام الوردیة، أتساءل كیف تحوَّل بیتي إلى سجن كبیر، وبات عقلي أقرب للجنون!

أمي

في كل مرة كنت أخشى أن أبوُح لكِ أخاف من نظراتِك الغاضبِة، حرمانك الممیت قهرًا على قهر امتد بداخلي صانعًا ألف حاجز، إلى هذه الدرجة هنت علیكِ. تمر بداخلي عشرات من الصور تجمعنا، لماذا كلها مشوهة؟ وكأن حضنك الدافئ بات شوكًا غائرًا. یا أمي أنا ذاك المعذب الحائر بین الحقیقة والعاطفة، فالحقیقة تقول: أنت ذاك المنبوذ الملعون المحروم من أي حب مكنُون، والعاطفة تئن من لوعِتها یا أمي.

هنا، هنا حیث تاهت أفكاري المغلفة بالاشتیاق، فأنا كما صورت لي ذاك الشیطان المطرود من رحمتك، هل ترین حزني ولوعتي؟ اضطراب أنفاسي وبراكین قلبي؟ كم من مرٍة وددت احتضانك ولكن بات حضنك قاسیًا یا أمي وبات قلبي ینفطر؟ أحسست حینها بأن فؤادي یذوب ویتلاشى والكون من حولي یندثر، أتساءل، ماذا عن شعوري بأن لم تعد لي أم وأنتِ في حیاتي وتربطني بك علاقة باللحم والدم؟ أحبك دائمًا ولكن یبقى السؤال: متى كل هذا الحزن الذي خلدته بقلبي سیزول؟

أبي

الغائب الحاضر ذو الفِكر الشارد والسب واللعن الدائم، أتراني؟! أنا ذاك المرتعِد الخائف، المكبل بفروض الطاعة الدائمة وإلا یجلدني حزامك فیصبح كالسوط في قلبي، وینحت على جسدي، صانعًا لوحة من الألوان تشهد على مأساتي، قاتلة معها أحلامي، ومشیرة إليَّ بأصابع الاتهام. وددت أن تكون ذاك السند الحنون الذي أتكئ علیه من عقبات الحیاة، ویساعدني في تجاوزها، لا أن یكون هو العقبة ویتركني لتعصف بي الحیاة.

اقرئي أيضًا: بابا حبيبي: رسالة إلى بابا حبيبي من أعماق قلبي

في معظم البیوت تسكن حكایا مثل هذه وتختبئ، آن الأوان بأن نسلط الضوء على الإساءات المتكررة، المشاعر المختزلة والغضب العارم. الیوم أتحدث على لسان الأبناء إلیكم. أنتم من أنشأتم ذاك الطفل الخجول الثائر، كیف حولتم ذلك الرباط السامي، رباط الأمومة والأبوة لحبل یبتلع الأبناء بردات الفعل المشروطة مغلفة بحجة التربیة والحب والمصلحة، صانعة معها دهرًا من فقد الذات والحرمان.

لم تكن المشكلة قط في الأبناء، بل كانت في أسلوب التربیة، فكما یقول الدكتور عماد رشاد عثمان، في كتابه “أبي الذي أكره” إن الأسرة ببساطة بیئة احتضان -تهدویة- القلق مقابل الوجود، یدخلها الإنسان لتحمیه في البدایات لحین اكتمال نمو أدواته الخاصة التي یتمكن عبرها من مقابلة الوجود بشكل فعال وذاتي، وغیاب تلك البیئة لا یهدد بقاء الكائن في طفولته فقط، بل یُعطل من نمو أدوات التعامل مع العالم تلك، مما یهدد بقاءه حتى بعد بلوغه أیضًا. فنعم، التربیة هي أسمى ما في الوجود ولها كل التقدیر وأجر عظیم عند االله، ولكن كیف شعور الأبناء وهم یساقُون كالماریونیت، الدمى الخشبیة، بحجة التربیة و یقدمون أنفسهم قربانًا من أجل شعور المحبة؟ ماذا عن الإساءات مثل المقارنات، الطرد، التجاهل، التفرقة، الإهمال، الخذلان، الألقاب النابیة، كبت المشاعر، صراعاتكم أمامنا وغیرها من الإساءات الروحیة والنفسیة؟ أتعلمون كم تضع إساءتكم بداخلنا ألف شعور، أبرزها الهجر، الخوف، الخزي وأشیاء أخرى؟

فالطفل كبُرعم زهر ینمو في بیئة صالحة مدعومة بالحب والقبول والود ومساحة الأمن بلا صراعات أو تجمید لمشاعرهم في مراحل نموهم الأولى، حتى لا تتلف بذرة نموهم في الصراعات والخلافات والإیذاء البدني والنفسي، مما یؤدي بعد عمر إلى شرخ في قلوبهم واغتراب دائم في ذواتهم، فیبحثون عن الحب في كل واد، فتتقاذفهم أمواج الحیاة وتلقي بهم هنا وهناك، وشعور الهجر والجلد الذاتي یتفاقم بداخلهم ویحاوطهم، والخوف الدائم یسكنهم فيصبحوا كالمحاصرین الشاردین الوحیدین في حیاتهم بلا واجهة أو رفیق.

فارحموا بذرتكم، افتحوا لهم القفص ودعوهم یغردون بحب وتربیة سلیمة وحریة، اسقوهم بكل معاني المودة والأمن والحنان، حتى لایصبح ذنبهم حیاة مشروطة بالماضي مربوطة، وجمیع أبواب الحیاة بداخلهم مسدودة.

ختامًا هناك فرصة دائمًا للتغییر، فكما تتغیر عقارب الساعة یمكنك تغییر أسلوبك في التربية ومعاملة أبنائك بلا إساءات، امنحهم الحب والدعم الدائم بلا شروط أو منازعات أو تجمید لمشاعرهم، وعندها ستزهر حیاتك وحیاة أبنائك بالود والحب وشعور أبنائك بالامتنان.

اقرأ أيضًا: الأمومة بين كتب التربية الحديثة وصراعات الواقع

المقالة السابقةنوبة القلق المتكررة: كيف هي وما فعلته بحياتي
المقالة القادمةكيف يأكل القلق المشاعر الأخرى؟
مساحة حرة لمشاركات القراء

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا