ولا الهوى عمره ما صابك؟!

684

 

سميحة الصواف

يقول فرانسوا دولاروشوفوكو: “ثمة شيء مشترك بين الله والحب: الجميع يتكلم عنه ولم يره أحد”.

تذكرت تلك المقولة بينما كانت تصدح ميادة الحناوي قائلة “بتحبني ولا الهوى عمره ما صابك! بتحبني ولا انكتب ع القلب نارك!”.

 

أتذكر استفساراتي المطوَّلة عن السبب وراء كونهم يشيرون للحب دومًا في الأغاني بمشاعر يغلب عليها الانكسار والوجع والاستسلام. وعليه فإن كان هذا الحب سادي الطباع إلى هذه الدرجة، فلمَ تتسارع نحوه الخُطى ويقدمون أرواحهم قرابين بساحاته؟! هل هذا لرغبة إنسانية لتدمير الذات؟ ربما!

 

لم أفهم الحب الذي يتحدثون عنه هذا يومًا وأراه دومًا غير منطقي ومليء بالمغالاة، حتى ترسخ بداخلي يقين كوني معدومة الشعور، على الأقل بمقاييسهم.

 

فبينما كنت طفلة تهوى إلقاء الأحكام على الكبار في صمت، فقط كمحاولة مني لفهم وتقنين ما يبدر عنهم، كرغبة مني للتعايش بينهم لا أكثر ولا أقل، تعايشت مع الأمر كأنه لعبة أو فيلم سينمائي طوله بطول عمري، فيصاحب ظهور كل أصدقاء والدَي صوت حكيم كصوت الراوي بالأفلام، يعلن آخر ما توصلت إليه من أحكام بما يخص صفات هذا الشخص.

 

فبظهور عمي “بديع” صديق والدي كمثال يبدأ الراوي قائلاً: عمي “بديع” يحب زوجته وأطفاله، وهذا جلي ومثبت بكل مواقفه اليومية، فقد سردت زوجته كونه أصر على تحمير الكاليماري بنفسه ليعفيها من الدخان، كونها تعاني من حساسية بالصدر. بينما يُصِر على التدخين داخل الشرفة خوفًا من أن يصاب أولاده بحساسية أيضًا.

 

وقد كان جالسًا بينما كانت تحكي هذا، ولم يظهر على وجهه علامات تفاخر بما يفعله من أجل عائلته! نعم هذا يعد حبًّا، فقد أجهد عقله للتفكير بزاوية تفكيرها، ووجد ما يليق وفعله بطيب خاطر، ولم يكن هذا مدعاة للتفاخر أمام الآخرين، بل كان يعنيه حقًا. إذًا أريد أن أتزوج مستقبلاً مَن سيحبني كعمي “بديع”.

 

تمر الأيام وأكتشف مصادفةً أن ما قالته زوجة العم “بديع” كان كذبًا ومن نسج الخيال، وعدم تفاعل العم “بديع” معها لم يكن لحرج، ولكن لكونه يعلم من داخله أنها كاذبة تُزين الحقائق لتضفي على عائلتها صفة الكمال.

 

عرفت هذا بينما نسيَت أقوالها السابقة مصادفة بمحادثة أخرى، أنكرت فيها كل ما سبق، وأثبتت عكسه التام، وتناسيت أن بين المستمعين محللة ذات تركيز عالٍ مثلي تقارن الأقوال والأفعال وتكوِّن صورًا أكبر. عليه فأنا لا أريد زوجًا كعمي “بديع”، ولكن أريده كالصورة الأولى لهذا العم، بينما كان يراعي ويفعل ما هو بمصلحة الجميع وليس مصلحته وحده، ولا أريد أن أصير يومًا كزوجة العم “بديع”، المضطرة لنسج حياة من خيالها، كآلية تعايش مع واقعها اليومي غير الداعي للفخر.

 

هكذا تلقيت معلومات الحب والعلاقات بطريقة مشوَّهة إلى حد كبير، على مدار حياتي، من المتناقل من أكاذيب، بين من يدَّعوا كونهم أحبابًا، بينما ما يمارسونه أبعد ما يكون عن رُقي المسمى. أستطيع الحكم جزافيًا كوننا نسيء استعمال الحب بمعناه الصحيح بهذه المدينة الظالم أهلها، إلا من رحم ربي بالطبع، وأتمنى لهم كل توفيق بمحبتهم الغالية.

 

أو ربما صِرنا نتعامل مع الحب وكأنه رفاهية أو سلعة استفزازية لا نقوى عليها، وعليه صرنا نستعمل النسخة صينية الصنع، والتي حوَّلته إلى فعل مادي مُنزَّه عن السمو الأول للكلمة بذاتها، وما يترتب عليها من سعادة صافية تُقرن فقط بها دون غيرها.

 

وبينما صار الوضع يسير في طريقه من سيئ لأسوأ، وصارت أي مقارنة بين الواقع وقصص الحب الناجحة التي تتغنَّى بها الجدات، عن أزواج عاشوا وماتوا وكانوا محظوظين، ليعيشوا حبًا يستحق اسمه، يصير درب جنون وإضاعة للوقت والجهد. فبينما تقرر تشكيل صورة واضحة عن الشخص الذي تريد مشاركة تفاصيلك اليومية معه، ومجازًا يصادفك الحظ لتلقاه، حتى تظهر صور أكثر تعديلاً وأكثر تحفُّظًا وأكثر خيالية تخص الكيان الهلامي لهذا الكائن، بعضها من أكاذيب نسجها آخرون ليضعوا على ملحهم بعض السكر، لتجد نفسك مجبرًا أن تتابع ليوم آخر، وآخر يليه، وبحلقك مرارة كونك ربما لم تختر ما تريده حقًا، ولكن أجبرت على اختيار أحسن المتاح، لا أكثر ولا أقل، وكأنه يحدك قانون العرض والطلب.

 

هكذا يعيش الكثير في دائرة مفرغة من عدم اليقين، وعدم الراحة، إن كان اختيارهم يناسبهم حقًا أم أنهم تسرعوا وصار لزامًا عليهم التعايش مع خيارهم، بتجميله ببعض مكياج الأكاذيب، وحينها يصير كل شيء على ما يرام، للتفاخر به أمام العامة، بصور تجمعنا على شبكات التواصل، توضح حبًا صافيًا داعيًا للحسد، ربما متناسين نخر السوس.

 

لقد تربينا بصورة محيرة، ولم يعد هناك فاصل واضح بين ما نحبه وما نحتاجه وما لا غنى عنه. وعليه نجد أنفسنا في علاقات لأشخاص نحب صفاتهم المبهرة ولا نكذب في ذلك، لنتفاجأ مع الوقت أنهم ليس ما نحتاجه على الإطلاق، فنشكك في الاختيار ونحاول تعديلهم ليناسبونا. ونشتكي إن أظهروا تزمرًا لمحاولات التغيير الأنانية تلك، متناسين حق الآخر في التمسك بإرثه الشخصي.

 

فكما قالت أم كلثوم “العيب فيكم يا في حبايبكم.. أما الحب يا روحي عليه”.

 

تلقيت معلومات الحب والعلاقات بطريقة مشوَّهة إلى حد كبير

 

المقالة السابقةتلك الفتاة
المقالة القادمةفي مديح أخطائنا

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا