بقلم/ سمر صبري
أشرد بخيالي مسافرة إلى تلك السنوات البعيدة، سنوات الطفولة ومدرستي الابتدائية. أكاد من فرط التخيل أسمع ضوضاء الطلاب في فناء المدرسة.. ضحكات زملاء الفصل خلسة كي لا ينتبه لنا المُدرِّس.. تحضير حقيبتي كل ليلة استعدادًا ليوم دراسي جديد.. هل وضعت علبة الألوان في الحقيبة؟
للذكرى دومًا سحر جميل تثيره في النفس، حتى لو كان ما نتذكره وقت حدوثه فعليًا ليس جميلاً، لكنها النفس البشرية وعجائبها، إذ نحِنُّ دومًا لكل ما قد مضى ونضفي عليه سحرًا أسطوريًا يجعلنا أسرى الذكرى.
بينما في حقيقة الأمر لم يكن كل شيء جميلاً في فصول المدرسة، فمع سحر براءة هذه الأيام الخالية من أي مسؤولية، ومع سحر تجمُّع الأصدقاء قبل أن تفرقنا سكك الحياة المختلفة، ثمة ما كان يثير في النفس أيضًا انقباضة: امتحانات.. درجات تُفقد.. عصا يمسكها المدرس دومـًا كأنها قطعة أساسية تكمل أناقته، وجميعنا كطلاب كنا نخشاها.. نخشى أن يكون نصيبنا يومًـا ملامسة العصا لجلودنا بضرباتها الجنونية. كنا نحذر أي خطأ يُقرِّبنا منها، فترعرعت فينا عقيدة أن الخطأ أمر كارثي، سيجعلك منبوذًا.. ستكون مسخة الفصل، وضحية للعصا.
طوال سنوات المدرسة نشأتُ على عقيدة كارثية الخطأ، إلى أن طالعت يومًا وأنا شابة مقولة خلخلت قناعاتي: “ارتكب الأخطاء.. فإنها الطريقة المُثلى للتعلم”، تساءلت حينها أيُعقل أن يكون الأمر بهذه البساطة؟! بلا عقاب؟! بلا عصا؟!
دوَّنت تلك المقولة، لا على ورق وإنما نقشتها في قلبي إن جاز التعبير، لأبدأ معها رحلة التعافي من جلد الذات حينما يجانبني الصواب، وأظنني أبليت حسنًا في رحلتي تلك.
ربما لعنة أي شخص يعتاد منه الآخرون أن يؤدي مهامه على أكمل وجه، هي أنه يُصبَغ بصبغة المثالية: “الشخص الذي لا يُخطئ.. الشخص الذي ينبغي أن يقوم بكل ما وُكِّل إليه كما يقول الكتاب.. لا نتوقع منك الخطأ.. لا نتوقع منك أنك تحتاج للمساعدة.. أنت مثالي في أعيننا، وهكذا نتوقع منك على الدوام”، في حين أن لا أحدًا مثالي وجميعنا بشر، حتى أفضلنا في أي شيء، ليس هو الأفضل على الإطلاق، وليس الأفضل في كل وقت، لأنه ببساطة بشر، تركيبة من الجيد والسيئ في نفس الوقت، من القوة والضعف، من كل المتضادات معًا.
كتبها إحسان عبد القدوس مرة: “أنا الخير والشر معـًا.. لأنني إنسان”، وأكاد أقرأ بين سطوره: “لا تتوقع مني أنني جيد على الدوام؛ لي سقطاتي.. لي أوقات ذبولي وانطفائي، فقط أزِل عني تصوراتك المثالية؛ أنا إنسان”.
في سن أصغر، كنت واحدة ممن تعانين هوس القرب من الكمال، وإن كنت واحدًا من هؤلاء، فأنت بلا شك من الأصدقاء الأوفياء لجلد الذات، تؤنب نفسك مرارًا إن ارتكبت خطأ ما، لا لفداحة الخطأ، وإنما لأنك خرجت عن تلك التصورات المثالية المأخوذة عنك من المحيطين، مما يدفعك للتفكير المُضني قبل الإقدام على أي خطوة، لأنك دومًا تضع في الحسبان نظرة هؤلاء المتوسمين فيك ألا تُخطئ أبدًا.
كنت في تلك المرحلة تمامـًا كــ”راسل كرو” في فيلمه A beautiful mind، حينما كان يصحب معه في كل مكان هلاوسه المُجسَّدة في صورة أشخاص لا يراها سواه، كنت أصحب معي تلك التصورات عني في كل خطوة، إلى أن أدركت أنني تمامًا كـ”كرو” في الفيلم، كلانا محمل بأعباء غير حقيقية تثقله، فلا الأشخاص التي كان يُخيَّل له وجودها حقيقية، ولا تصورات المحيطين عني حقيقية، لذا فتغافلتها مع الوقت، تمامـًا كما فعل بطل الفيلم مع هلاوسه.
كبرت بعض الشيء، وصغر إحساسي بفداحة الأخطاء، لم يعد يؤرقني سوى تلك العبارة التي كنت أسمعها تتردد على مسامعي من المقربين إن تحدثنا في مشكلة تؤرقني: “مبنقلقش عليكي.. هتعرفي تتصرفي صح”، وعلى قدر جمال فكرة أن يمدك الآخرون بالثقة، إلا أنني كنت أشعر بالجملة تُطوِّق رقبتي، فأكاد أختنق منها، لأنها تنزِّهني عن التصرف بصبيانية، وتسلبني حقي في الخطأ، حتى ولو بمجرد تصور عني في الأذهان. كانت جملتهم تتركني أقف عاجزة بين تصوراتهم المُبالغ فيها عني، وإدراكي لقدراتي الفعلية، كانت دومًا تلك العبارة تجعلني أتساءل: هل يخطئ المرء لأنه لا ينقل للمحيطين شعوره بحاجته للمساعدة.. بعدم قدرته على التصرف.. بفوضاه وارتباكه وتعثره؟ هل يعاقبنا الآخرون بعدم التفافهم حولنا وتقديم الدعم اللازم لمجرد تصورهم المغلوط بأننا نجيد التصرف دومًا؟
ولكن مع الوقت.. مع التقدم سنًا.. مع زيادة الإدراك، صرت أكثر اقتناعـًا بألا أنشغل كثيرًا بما يراه الناس عني، مع إيماني التام في الوقت نفسه بضرورة ألا يسد المرء أذنه عما يقوله المحيطون أو يعتقدونه بشأنه، لأننا في النهاية لا نعيش بمعزل عنهم، وكل ما يهم فقط في النهاية هو أن يجيد المرء القدرة على عدم الذوبان مع ظنون ومعتقدات الغير، أو التحول لسجين لأفكار المجتمع السائدة. شب المرء واكتشف أن كثيرًا مما ظنه إجابات نهائية عمرًا كاملاً، ما هو إلا مجرد ترهات.
مع الوقت ومن وحي الخطأ، صرت أكثر تحررًا من قيود نظرة الآخرين، وأكثر انشغالاً بفكرة أن أكون شخصًا على قدر تصرفاته، فإن أخطأ تحمَّل المسؤولية، صرت أكثر تقبلاً لارتكابي الأخطاء دون تأنيب، مما جعلني أكثر رحمة بنفسي، فقط أقف أمام ما جَانبني الصواب فيه لأستخلص الدرس المستفاد، ثم أتجاوزه تمامًا وأضع نقطة لأنتقل إلى سطر جديد.
من وحي الخطأ، صرت أخصص في قلبي مكانة كبيرة من الاحترام لأي شخص لا يجد في اعترافه بالخطأ انتقاصًا من نفسه، بل أراه شخصًا سويًا معترفًا بنواقصه ومتصالحًا معها، أشخاص كأولئك بإمكاني التوحد معهم والتعلم من تجربتهم الإنسانية، لأن مَن يعترف بأخطائه هو قطعـًا شخص يُجري مراجعات لنفسه وسلوكه وقراراته، أما هؤلاء الذين يدّعون امتلاكهم الإجابة النهائية لكل شيء، ولا يعترفون أبدًا بقصور رؤيتهم أحيانًا، فلم يكونوا يومًا محلاً لانبهاري، إذ أرى فيهم ادِّعاءً زائفًا ينافي طبيعتنا كبشر.
أهدتني أخطائي درسًا يجعلني ممنونة لكل حماقاتي، فمن وحيها أدركت أن أجمل ما في ارتكاب الأخطاء ليس أن تتعلم منها فحسب، وإنما أنها تجعلك أكثر رحمة بالآخرين، وأكثر قبولاً للضعف الإنساني الذي يعترينا جميعًا، باختلاف درجة القوة فينا، على طريقة: “لا عليك.. أنا أيضـًا أخطئ”.
والأهم، من وحي الخطأ أدركت أن الأبشع من وقوف المُدرِّس في مدرستي الابتدائية ممسكًا لنا بعصا، أن يقف المرء لنفسه بعصا ليجلدها إن أخطأت، لذا فقد حطمت العصا خاصتي.