الباقي من الزمن

731

“هانت.. كلها 135 يوم وهسيبهالكم مخضّرة”.

 

بدأ كل شيء بعد تحديد موعد زفافي، صرت عصبية نافدة الصبر، لا أتحمل أي نقاش مع أمي أو خلاف مع إخوتي، وكلما دخلت مناقشة كنت أنهيها بعدد الأيام المتبقية حتى موعد الزفاف.

 

*** 

 

“هانت.. كلها 120 يوم وهريحكم مني”.

 

مشكلتي منذ الصغر أنني لا أنام بعمق أبدًا، أنام بينما أعي صوت التلفاز العالي وصوت شجار إخوتي وصوت صريخ أمي في أختي الصغيرة كي تكف عما تفعله ويزعجها.

أما مأساتي الحقيقية فكانت سمعي المرهف.

أستيقظ من نومي في الثالثة صباحًا لأصرخ عليهم بعدد الأيام الباقية لي في البيت وأرجوهم قليلاً من الصمت حتى أستطيع أن أنام كي لا أغفو على مكتبي في النهار التالي.

 

***

 

“هانت.. كلها 95 يوم ومش هوجع قلبك يا ماما”.

 

دائمًا ما تتهمني أمي بأني سبب وجع قلبها. دائمًا ما تردد أنني: “مليش كبير ومبسمعش كلام حد”.. ربما كانت على حق دائمًا، ربما كنت مثالاً للطفلة كثيرة التساؤلات التي لم تجد أبدًا إجابة شافية لكل ما يدور بعقلها، ربما كنت مزعجة قليلاً ومثيرة لتوتر كل من حولي، ربما كان يجب أن أرضخ قليلاً لخياراتهم كي لا أؤلم أمي أو أسبب لها وجع القلب.. ولكن من قال إنه يجب عليّ أن أوافقها على اللون الغريب الذي تصر على اختياره لجدران بيتي كي أريح قلبها؟!

 

دائمًا ما كنت أحلم ببيت أبيض كجناح يمامة، مفروشاته خضراء كقلب الفستقة، كنت أحلم وأنتظر حتى يكون لي بيت أعده كما أريد بالألوان التي أحبها. ورفضت أمي الجدران البيضاء بحجة أنها سريعة الاتساخ ورفضت المفروشات الخضراء لأنها تراها “مش حلوة ومش بتاعة عرايس”.

صرخت ودخلت المشاجرة وذكرتها بالأيام الباقية لي معهم ودافعت عن بيتي حتى انتصر الأبيض والأخضر على الألوان التي تراها أمي مناسبة.

 

*** 

 

“هانت كلها 66 يوم ومش هتشوفوا وشي”.

 

وكأني أجري في سباق والأرض مليئة بالعثرات والحفر، كل يوم أستيقظ من نومي في السادسة صباحًا لأذهب لعملي، أخرج من المكتب وأعدو في شوارع المدينة، أدور بين قاعات الأفراح وصانعي التورتات المجسمة وأتيليهات فساتين الزفاف. 

 

أعود لبيت أمي منهكة أمسك ورقة وقلمًا وأبدأ في الإحصاء.

أحصي ما اشريته وما ينقصني.

أحصي ما اتفقت عليه وما لم أستقر عليه بعد.

أحصي المدعوين وأتشاجر مع أمي لأني لا أريد لزوجة ابن خالها الحضور بينما هي تصر على دعوة الجميع. 

 

أتشاجر على كل شيء وأحصي الأيام الباقية، وأدخل لأنام كي ينقصوا ليلة.

 

***

 

“هانت يا هبة كلها 35 يوم وتخلصي”.

 

أشعر بالإرهاق والرغبة العميقة في النوم، أنا لا أنام، أغفو على مكتبي وفي الأتوبيس وفي طوابير الانتظار، وأصبّر نفسي بالبيت الجديد، بالسرير المصنوع لي أنا، بالملاءات الجديدة التي اشتريتها مناسبة لذوقي، بالوسادات المريحة التي بت أحلم بها. 

 

***

 

“هانت كلها 20 يوم وتخلصوا من الفوضى دي”.

 

أبي دائم الشكوى من انعدام النظام في بيت يعيش فيه خمسة أبناء، أما قبل زفافي فقد تحولت شكاواه لشجار يومي معي ومع أمي.

كانت الكراتين تحتل كل ركن في البيت، وكنت وحدي أعرف محتوى كل كرتونة وأمرت بعدم فتح الكراتين أو تفتيشها، فلم أكن أريد أن يعلموا أنني جمعت سبع عشرة كرتونة تحتوي كتبي فقط، كانوا سيقولون لي اتركيهم أو انقليهم بعد الزفاف، وأنا كنت أعلم أن بيتي لن يصبح بيتي إلا بوجود كتبي فيه.

وزعت كراتين الكتب وسط كراتين الأطباق وطقم الصيني الكبير وأطقم الجيلي والخشاف والكاكاو التي أصرت أمي على شرائها. 

ويظل كل شيء في طريق أبي حتى قبل زفافي بأسبوع.

 

*** 

 

“هانت كلها 7 أيام ومفرجش عليكم الناس”.

 

كانت هذه الجملة التي اختتمت بها شجاري مع أمي صباح يوم التنجيد.

أصرت أمي على حفل كبير ودعت العائلة بكاملها ليشهدوا أثاث بيتي ومحتويات مطبخي وملابسي الجديدة فيما يعرف بيوم التنجيد، حيث يتم تنجيد المراتب والوسادات والألحفة على أنغام الـDJ بينما تعرض محتويات البيت الجديد في الشارع على رؤوس الأشهاد، حتى ينتهي التنجيد فيتم تحميل كل شيء على العربات التي ستنقله لبيتي.

 

رفضت عرض محتويات بيتي في الشارع. رفضت أن أترك العيون الغريبة تنهش بيتي ومطبخي وغرفة نومي. اتهمتني أمي بأنني أفضحهم أمام الناس. أتت جارتي لتحدثني عن الناس “اللي هتاكل وش أمك وأبوكي” ويقولون بأنهم لم يشتروا لي شيئًا قيمًا.. رجتني ألا أجعلهما فُرجة للجيران والعائلة، فذكرتها بالموعد واعتصمت بغرفتي حتى أنهى العمال عملهم.

 

*** 

 

“هانت كلها 3 أيام وتبطلي قلق”.

 

كانت هذه الجملة التي قالتها لي الفتاة الغريبة في صالون التجميل عندما لاحظت شحوبي والهالات السوداء حول عينيّ.

كانت تعتقد أنني قلقة بسبب قرب موعد زفافي، بينما لم تكن تعلم أني قلقة لأن صنبور الحمام في البيت الجديد قد انكسر وأننا لم نجد عاملاً معه “شنيور” ليقوم بتثبيت مواسير الستائر، وأن زجاج “ترابيزة السفرة” قد انكسر أثناء نقل الأثاث وأن وصلة الغاز الطبيعي لم تعمل في البيت وأنا لم أقم بشراء أسطوانة غاز حتى الآن، وأنني مرهقة جدًا لأنه إضافة لكل الأسباب السابقة عائلتي غاضبة مني منذ يوم التنجيد ولم يساعدني أحد على الإطلاق في فرش بيتي، فقمت بكل شيء أنا وزوجي وحدنا.

 

*** 

 

ـ هانت كلها كام ساعة و…

ـ خدي بعضك وانزلي يا هبة من البيت شوفي وراكي إيه.

 

كان هذا الشجار الأخير صباح يوم زفافي. كل منهم مشغول بشأن يخصّه، فلم يساعدني أحد، حملت فستان زفافي وحدي وذهبت لصالون التجميل وحدي.

قضيت النهار كله وحدي، وعندما أنهيت تجميلي وحانت لحظة ارتداء الفستان ساعدتني إحدى العاملات بالصالون وأبدت تعجبها من العروس التي لا يرافقها أحد.

أما أنا فكتمت غصّتي وعلقت عيني بعقارب الساعة منتظرة اللحظة التي سأرحل فيها من الصالون مع زوجي.

 

***

 

انتهت الساعات والدقائق.

انتهى حفل الزفاف.

انتهى كل شيء.. 

وعندما ركبت معه السيارة التي نقلتنا لبيتنا شعرت بانتهاء الغضب والثورة والتوتر والخوف والصداع. فنمت.

ركنت رأسي على كتفه وغفوت ولم أستيقظ إلا أمام باب بيتي.

المقالة السابقة12 حقيقة غير حقيقية عن البنات
المقالة القادمةالتوقعات المرئية لزواج ناجح

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا