القاهرة غزة 5 : أنا تميت 29 سنة

1327

دينا

5/2/2016

هكذا استيقظت اليوم صباحًا وأنا أحمل هذا الرقم فوق رأسي المندهش من السرعة الخيالية للعمر الماضي.

أتساءل.. كيف مرت الحقبة العشرينية مرورًا لطيفًا حينًا وعنيفًا حينًا آخر، خلالها رأيت الكثير من الأحداث وتعلمت أكثر، وبلغت من النضج ما يكفي ليطقطق شعري شيبًا وإن لم يفعل بعد، فقط مارس هواياته المحببة في التساقط، وتقريبًا سأعبر الثلاثين صلعاء.

 

نسيت أن ألقي عليكِ تحية المساء يا لقاء الغالية..

مساؤك معطّر ومنسم بروائح البحر الذي أسعدك وأخذ من أحزانك ولو قليلاً، أتمنى أن تكوني بخير الآن وأن يكون العالم من حولك قد تخلّى عن ألمه وابتسم من أجلك، وأتمنى أن تمنحكِ “سلوان” ردودًا على رسائلك، وأن يكون الله قد هوّن عنها فراق والدتها الغالية.

 

أشعر بها يا لقاء، وأعرف كم الحزن الذي تضمه بين ضلوعها المتوجعة؛ اختبرت لمحة منه حين مرضت أمي وما زال شعور الفقد يحلِّق فوقي غير مبتعد.. يحشو رأسي بالهواجس ويجعلني أرى خيالات مؤلمة لا أستهواها.

لن تفيق “سلوان” قريبًا، وستظل في حالة اجترار لِكمٍّ من الذكريات السعيدة المؤلمة الآن، ستجالس الصمت كثيرًا وستبقى الدموع صديقتها الوحيدة ولن يحميها النسيان من الألم.

ليجعل الله منك سندًا يعينها على اجتياز محنتها، وليمنحها فوق الصبر صبرًا.

 

ولتخرجي أنتِ أيضًا من دوائر الألم، وابحثي عن تلك السعادة المختبئة بين رفوف أيامك وستجديها يا لقاء، ستجديها كما شاهدتِها في ابتسامات الناس في أراضي غزة، تلك المشاهد التي وصفتِها ببراعة في رسالتك فيها من السعادة ما يطرد الهم.

أعرف أننا لا نملك ذلك الزر السحري لتحويل عبوسنا إلى ابتسامات صافية، ولكن لنحاول حتى لا نصاب بشيخوخة مبكرة في أرواحنا.

 

أتعرفين؟ كنت دومًا لا أصدق مقولة “نحن صانعو السعادة”، فكيف أصنع السعادة والبؤس يحكم خناقه على أنفاسي؟ كيف أخلقها وأنا أستيقظ في الصباح وتكشيرة عميقة مرتسمة على ملامح وجهي أشتهر بها بين أفراد عائلتي؟ تكشيرة لا تنفك إلا بعد أن يصير البيت مرتبًا وبعد أن أُسكت صراخ معدتي الخاوية وبعد أن أشم رائحة القهوة التي باتت شايًا باهت الطعم.

حينها يصير العالم جاهزًا لاستقبال ابتسامتي وألعابي الطفولية مع الصغيرة، وتصير أذني قادرة على تلقي الأحاديث والموسيقى، وأدخل المطبخ قادرة على ابتلاع وقوف ساعتين لتجهيز الغداء.

 

صدقينى حاولت أن أتصنع الانتشاء حين أصافح أول لمحات ضوء الصباح لحظة النهوض من النوم، ولكن لم أستطع، حتى باتت تلك اللحظات الأقل تفضيلاً لدى الجميع، بما فيهم زوجي، الذي يكره حرفيًا لحظات استيقاظي.

 

صدقت تلك الجملة فقط حين اعترفت لنفسي في لحظة بائسة منذ سنوات، كنت فيها معزولة عن كل شيء أحبه، أنني من سمحت بدخول الحزن إلى قلبي، وأنا أيضًا من كفّ عن رؤية البهجة رغم أنها تحاوطه.. نعم لم تنفك تكشيرة الصباح الشهيرة وإن بدأت في التمتع بالتفاصيل التي تليها.

 

أنا لست خفيفة الروح يا لقاء، وأحمل من الأعباء ما يثقلني، ولكن أحاول النهوض كلما تعثرت واكتشفت دروبًا بت أقطعها حينما أُدفن تحت عالمي ولا أبصر شيئًا، أمد يدي نحو الله وأنا أعرف أنه سيعينني، وأجد ذراعي زوجي جاهزتين لاحتضاني بعد كل تلك السنوات لم تكلاّ أبدًا.

 

صدقت المقولة أيضًا في بداية ذلك الأسبوع حين ذهبت إلى “راس سدر” وهي مدينة صغيرة في جنوب سيناء ترى البحر الأحمر الهادئ، في إحدى اللحظات قبل السفر استحوذت عليّ الأفكار البائسة المحطِّمة للهمم.. صرت شخصية هلوعة تخشى الجو البارد على صدر ابنتها الهش، وحسبت حسابًا للعمل الذي سأخلفه ورائي، وفكرت في نفسية إحدى أخواتي التي لم تستطع السفر معنا.

 

وضعت أمام عيني أن تلك الرحلة فاشلة ولن أسعد بها، وستأتي على رأسي بالشقاء، خصوصًا إذا مرضت الصغيرة.. سافرت متوجسة خائفة، وإذا بكل شيء رائع، حتى مع برودة الجو القاتلة ليلاً، والتي سحبت منا بعضًا من المتعة، ولكني أصررت على أن أفرح وأبتهج وأنا أجر خلفي مقعدًا وأضعه أمام البحر تمامًا، يخترقني هواؤه بألم وأنا لا أبالي.

 

سأسعد رغم البرد الذي أصابني بعدها، وسأخلق لحظات مرحة أتذكرها ونحن نتحلق حول الشواية الكهربائية في منتصف الصالة ننتظر حبات البطاطا التي تجلب رائحة شوائها والدخان الخارج منها دفئًا على المكان المغلف بدرجة برودة لم أختبرها من قبل.

 

لم تمرض الصغيرة، وعدت لأجد العمل في انتظاري ومنزلاً أحاله زوجي إلى فوضى عارمة بعد أن انفجرت به قنبلة ملابس ملقاة هنا وهناك، ولن أحدثك عن حالة مطبخي، فتخيليها أنتِ يا لقاء، فأصابعي غير قادرة على وصف الجريمة التي انتهكت نظافته.. في حالات كتلك حتمًا لارتسمت تكشيرتي على وجهي، ولكني لم أجدها، كانت روحي بحال جيدة قادرة على استيعاب الخلل وإصلاحه وإعادة كل شيء كما كان.

 

والأجمل أنني كنت مؤهلة لاستقبال عيد ميلادي بنفس صافية جاهزة لتلقي مفاجآت جميلة أعدها زوجي لي مع أخواتي البنات للاحتفال به، ثم جاءتني هدية من إحدى الصديقات المقربات لي، هدية هي في ذاتها سعادة خالصة.. أتتني بصندوق كي أحفظ فيه بكرات الصوف الخاصة بالكروشيه، صندوق رائع الهيئة تطير على غلافه فراشات ملونة وبه خطوط متداخلة تحاوط رسمًا لبرج إيفل على غطائه.

وحين فتحته وجدت بداخله شموعًا لها رائحة عطرية سترسلني حتمًا إلى أفكار رائقة واسترخاء محبب.

 

أما عن كلمات الأصدقاء وتهنئتهم التي تنهال منذ الصباح فكان لها مفعول قهوة اللاتيه حين أرتشفها باستمتاع فتترك على شفتي ابتسامة.. هكذا كانت كلماتهم لي، كانت كالمخدر الذي جعلني أمارس أفعالي اليومية بانطلاق وحب.

أقسم لكِ أن العبوس لم ينل من وجهي ولا من روحي اليوم.

فقط سعيدة وأنا بحوذتي كعكتان لعيد ميلادي وصندوق أتى من عالم الحُلم وشمعات معطرة وأماني جميلة من قلوب صافية تكسوني بالمحبة المستمرة.

 

“معقول في أكتر” يا لقاء؟!

 

سعيدة وراضية يا لقاء و”أنا ما بدي أكتر”.. فمعي من الفرح ما يكفي ويفيض على من حولي أيضًا.

افرحي أنتِ أيضًا وابتسمي حتى لو كانت ابتسامة شحيحة.. ارسميها على جدرانك اليومية ودوّنيها في رسالتك القادمة لي.

 

لتصبُ روحك إلى الفرح يا غاليتي.

ولتصبحي على ابتسامات متألقة.

 

 

المقالة السابقةإنتي وصاحباتك
المقالة القادمة13 مكان على كل أب وأم زيارتهم بمعرض الكتاب

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا